خطبة الجمعة 29 جمادى الأولى1441: الشيخ علي حسن : الخطبة الثانية: صراع بين خَصلتين

- يعيش الإنسان حالة من الصراع بين خَصلتين في نفسه، خَصلةُ حبِّ الذات وتقديمِ المصالح الشخصية من جهة، وخَصلةُ الإيثار والعطاء من جهة أخرى.
- فقوله تعالى: (قُلْ لَوْ أَنتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الإِنفَاقِ وَكَانَ الإِنْسَانُ قَتُوراً) [الإسراء:100] انعكاسٌ لصورةَ الخَصلةِ الأولى... فالإنسان الذي لا يُهذِّب سلوكَه يكون قتوراً، أي بخيلاً وشحيحاً وحريصاً.
- بينما تعكس آية: (وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَىٰ حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا، إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا) [الإنسان:8-9] صورة الخَصلة الثانية... ومن الواضح أن الصورة الثانية أرقى في المنظور القرآني.
- ولكن، هل هذا يعني أن الله لا يريد للإنسان أن يلتفت إلى نفسه وأن يلبّي حاجاته؟
- ليس هذا هو المقصود، فحبُّ الإنسان لذاته وسعيُه لتحصيل المنافع أمرٌ طبيعي ومشروع، بل القضية مرتبطة هنا بأمرين:
1. إدراك الفرد لحدود حاجته، بحيث يجعل للآخرين نصيباً للمشاركة فيما زاد عن الحاجة.
- عندما تتحدث الآيات من سورة المعارج عن المصلين، يقول تعالى في وصفهم: (الَّذِينَ هُمْ عَلَىٰ صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ، وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ، لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ) [المعارج:23-25].
- هذا مثال على العطاء من خلال ما هو فائض عن الحد، بحيث يضع الإنسان لنفسه حدوداً لحاجاته، ويجعل للمحتاجين نصيباً مما زاد على ذلك.
- عندما تجد أنّ في رصيدك لهذا الشهر فائض، فتشتري هذا وذاك مما يتجاوز حد الحاجة، فستصل في النهاية إلى نتيجة واحدة وهي أنك لا تستطيع أن تعطي للآخرين، وحينها تكون خَصلة حب الذات قد انتصرت على خَصلة العطاء.
- أي عندما لا تُدرك حدودَ حاجاتك، حينئذ تفقد السيطرة على إدارتك المالية، وتجد أنك لا تستطيع أن تُعطي للآخرين، خاصة وأن هذا العطاء غير مبرمَج ضمن خطّتك للإدارة المالية.
- وكذلك تنتصر خَصلة حب الذات على خَصلة العطاء عندما تتمكن من السيطرة على إنفاقاتك، وتحتفظ بفائض مالي، ولكنك لا تُنفق منه شيئاً بما يخدم الآخرين المحتاجين أو للخدمات العامة.
- 2153 شخصاً يمتلكون أموالاً أكثر مما يمتلكها 4 مليارات و600 مليون نسمة هم الأشد فقراً ويمثّلون 60% من سكان الأرض... هذا خير مثال على انتصار خصلة حب الذات.
- حتى لو لم تكن ملزماً بإخراج الحق الشرعي بحسب فتوى مرجع التقليد على الرغم من أن مدخولك السنوي آلاف الدنانير، لأنك متقاعد أو موظف حكومي... في المنطق القرآني هذا غير مقبول، وعلى الأقل يجب عليهم أن تُخصِّص من هذا الإيراد مبلغاً للعطاء كل سنة تطوّعاً.
- الآيات السابقة تصف المصلّين الحقيقيين بأنهم الذين يضعون العطاء للآخرين في ضمن برنامج الإدارة المالية الخاص بهم: (وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ، لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ).
2. تقديم الآخرين على النفس فيما تحتاج إليه، لا في الفائض، وذلك في بعض الحالات الخاصة التي تستدعي مثل هذه التضحية.
- الآيات التي تتحدث عن تضحية عليٍّ وفاطمة (ع) بالطعام الوحيد الذي كانا يملكانه وعلى مدى ثلاثة أيام، مثال على العطاء بتقديم الآخرين على النفس في بعض الظروف الخاصة.
- وليس بالضرورة أن يكون العطاء بالمال، فقد لا تملك فائضاً، بل قد تكون محتاجاً للمال، ولكنك تملك أن تُضحّي ببعض راحتك، بشيء من ساعات نومك، ببعض أوقات الترفيه عن النفس، من أجل أن تُسعد الآخرين، أو لتقضي حوائجهم، أو لتسهر على راحتهم، وأمثال ذلك.
- المهم في المسألة أن تجعل ضمن تخطيطك العام لحياتك أن تُعطي، وضمن سلوكياتك اليومية أن تُعطي، وأن تنصر روحية العطاء والتضحية والإيثار في صراعها مع حب الذات.
- لاحظ هذا التصوير الرائع للصراع بين حب الذات وروحية العطاء في كلمات علي (ع): (ولو شئتُ لاهتديتُ الطريق إلى مصفّى هذا العسل ولُباب هذا القمح ونسائج هذا القز، ولكن هيهات أنْ يغلبَني هواي ويقودَني جشعي إلى تخيّر الأطعمة، ولعل بالحجاز أو اليمامة من لا طمع له في القرص ولا عهد له بالشبع، أو أبيت مبطاناً وحولي بطون غرثى وأكباد حرى).
- كيف يُخفّف الإنسان هذه النزعة الأنانية؟ وكيف يتجاوز حالة البخل والتقتير والحرص؟
- أولاً، الالتفات إلى حاجاته الأخروية، فمن يؤمِن بأنّ هناك حياة مديدة بعد الموت، ثم حساباً وجزاءً، يستعد لذلك أحسن الاستعداد.
- لاحظ الربط بين التخطيط للآخرة وبين برمجة الإدارة المالية للفرد: (وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ، لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ، وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ، وَالَّذِينَ هُم مِّنْ عَذَابِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ، إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ...... أُولَٰئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُّكْرَمُونَ) [المعارج:24-235].
- ولاحظ الربط بين التخطيط للآخرة وبين التضحية: (وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَىٰ حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا، إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا، إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا، فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَٰلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا، وَجَزَاهُم بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا) [الإنسان:8-12].
- ثانياً، العناية بتنمية الأبعاد المعنوية في النفس، وعدم الاقتصار على تلبية الحاجات الجسدية أو التنمية البدنية... فحاجات الإنسان في الدنيا ليست حاجات مادية فقط.
- وهذا هو الذي يرتقي بالإنسان، ويحقِّق من خلاله إنسانيته، فيخلد به ذكرُه، وينال به رضا الله.
- ثالثاً، التوقّف من حين إلى آخر عن التحليق في الذات، والخروج من صندوق الأنا، والتفكير بالغير، والنظر إلى ما يحيط بنا من مآسي، وما أكثرها، وهي في كل يوم في ازدياد.
- أيها الأعزاء، هذا المال الذي بيد أحدِنا ليس له وحده، وإنما للفقراء والحاجات العامة نصيب فيه. كل واحد منا سيرحل عن هذه الثروات التي يجمعها، وفي نهاية المطاف سأكون وستكون أيها الإنسان تحت التراب، في قبر محدود، ولن يأخُذَ أحدُنا مِن هذه الأموال شيئاً معه، فلنُحسن التصرّف فيما ائتمَننا الله عليه مِن رزقه، فإنه سائلُنا عن ذلك غداً: (وَأَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَىٰ أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ، وَلَن يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ).