خطبة الجمعة 22 جمادى الأولى1441: الشيخ علي حسن : الخطبة الثانية: الاستشراق الإسلاموفوبي

- أشرتُ في الخطبة الأولى إلى ظهور ما يُعرف باسم الاستشراق الجديد، ويمكن لنا أن نلخّص أهم معالمِه في النقاط التالية:
1. هو حركة مؤدلَجة، أي تنطلق من خلفيات إديولوجية، وليست غاياتها علمية بحتة ولا بريئة.
2. تستهدف هذه الحركة في نشاطاتها ونتاجاتها - أوّلاً وآخراً - الإسلام والمسلمين.
3. يشارك في صُنعها بعضُ مفكري المؤسسات البحثية، وسياسيون، وصحفيون، وخبراء هوليوود، ومبشِّرون مسيحيون، وقليل من الأكاديميين، على خلاف الاستشراق الكلاسيكي الذي كان قِوامه الأكاديميين وما ينتج عنهم من بحوث ودراسات ومحاضرات.
4. العمل فيها مُمنهج من خلال مؤسسات قوية، مع خبراء مال، وسائل إعلام، ووسائل ناشطة وممتدة لنشر المعلومات، وليست جهوداً فردية.
5. القيام بالتنسيق مع أجهزة مخابراتية ومؤسسات حكومية دولية ومراكز صنع القرار فيها، والذي يصل إلى حدِّ المساهمة في اتّخاذ قرار شن حرب هنا، أو زعزعة أمْن هناك، أو إثارة نزاعات دينية أو طائفية أو قومية أو حرب أهلية وأمثال ذلك وفقاً للقراءات (الاستشراقية) التي تُقدِّمها عن طبيعة الخلافات العقائدية أو الفقهية أو الاجتماعية أو السياسية أو الثقافية للمنطقة المستهدَفة.
6. غالبية نتاجاتِها لا تتسم بالعمق والرصانة العلمية وليست ذات قيمة معرفية مهمة، على خلاف كثير من الدراسات الاستشراقية الكلاسيكية التي وإنْ لم نتفق معها - من حين إلى آخر - في نتائجها، إلا أنه لا يصح ادّعاء أنها كانت سطحية وساذجة.
7. التركيز على تقديم صورة نمطية عن الإسلام والمسلمين عنوانها الخطر والإرهاب وتهديد القيم الثقافية و(سلامة الحضارة والرفاهية المادية للغرب).
- جهود الاستشراق الجديد، وبروز حركات الإرهاب التكفيرية، بالإضافة إلى التصريحات النارية وذات الصبغة العدائية لبعض كبار المسئولين في الغرب، وغيرها من العوامل، أدّت إلى إحياء ما يُعرف بعنوان (الإسلاموفوبيا).
- بحسب الموسوعات ودوائر المعارف الغربية فإن هذا المصطلح يشير إلى الخوف من الإسلام وكراهية المسلمين والتعصّب ضدّهم، كأنْ تكون رؤية المرأة المسلمة الملتزمة باللباس الشرعي وهي تسير في إحدى شوارع أوروبا سبباً لاستدعاء صورة جرائم الجماعات الإرهابية التكفيرية، وأن تكون رؤية شخص يرتدي عمامة وهو من طائفة السيخ مدعاة لتصوّر أنه يحمل حزاماً ناسفاً، بتصوّر أنه شخص مسلم.
- ومن هنا، أَطلقت بعض الدراسات النقدية للاستشراق على هذا الاستشراق الجديد عنوان (الاستشراق الإسلاموفوبي).
المؤسسة البريطانية لمجتمع متعدد الأعراق (رانيميدي تراست) Runnymede Trust في كتابها (الإسلاموفوبيا، تحدي لنا) Islamophobia: Challenge for Us تقول أنّ ظاهرة الإسلاموفوبيا تقوم على تصوّر أن الإسلام دين وضيع، غير عقلاني، بدائي، شهواني، عدواني، عنيف، مهدِّد، مؤيد للإرهاب، وفي صِدام دائم مع الحضارات.

- والحقيقة أن تلك الصورة ليست جديدة بل تعود إلى القرون الوسطى، ولذا قلت (إحياء الإسلاموفوبيا). وبعض الدراسات الاستشراقية الكلاسيكية ساهمت في رسمها، وما قام به آباء الاستشراق الجديد من قبيل (برنارد لويس) و(صموئيل هنتغتون) و(فوكوياما) هو عملية نفخ الروح الخبيثة فيها من جديد وتوظيفها لمصالح غربية معيّنة.
- وإذا كان المستشرقون الجُدد يعملون على خلق وترسيخ حالة الإسلاموفوبيا، فإنّ المنصفين من الغربيين عندما اطّلعوا على حقيقة الإسلام، كان لهم موقف آخر مختلف تماماً، ومشابه لما جاء في قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا، وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً، وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا)[الإسراء:107-109].
- المحامي والدبلوماسي والكاتب الألماني (ويلفريد هوفمان) Wilfried Hofmann الذي عمل في الخمسينات من القرن العشرين في سفارة ألمانيا الإتحادية في الجزائر، وشاهد عن قرب الثورة الجزائرية، واطّلع على الإسلام، لم يجد لنفسه خياراً بعد سنوات من البحث والتدبّر سوى أن يعلن إسلامه سنة 1980، واختار لنفسه اسم مراد.
- لم يكن مراد هوفمان شخصاً على هامش الحياة، فهو من جهة خريج جامعة هارفارد، ومن جهة أخرى عمل كخبير في مجال الدّفاع النّووي في وزارة الخارجية الألمانية، وكمدير لقسم المعلومات في حلف الناتو، ثم سفيراً لألمانيا في الجزائر ثم المغرب، وكان إعلانُه الدخول في الإسلام موضع جدل بسبب منصبه الرّفيع والحساس في الحكومة الألمانية.
- يقول: (عندما تعرَّضْت لحملة طعن وتجريح شرسة في وسائل الإعلام بسبب إسلامي، لم يستطع بعضُ أصدقائي أن يفهموا عدم اكتراثي بهذه الحملة، وكان يمكن لهم العثور على التفسير في هذه الآية (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)).
- وقدّم هوفمان قرابة 350 محاضرة في 31 دولة، ركّزت معظمها على تقديم الإسلام للغرب، وهذا هو السياق الغالب على مؤلفاته، ومنها كتاب (الإسلام كبديل) الذي أحدث ضجة كبيرة في ألمانيا، ومن أقواله: (إن الانتشار العفوي للإسلام هو سمة من سماته على مرّ التاريخ، وذلك لأنه دين الفطرة المنزّل على قلب المصطفى.... إنّ الله سيُعينُنا إذا غيّرنا ما بأنفسنا، ليس بإصلاح الإسلام، ولكن بإصلاح موقفِنا وأفعالِنا تجاه الإسلام... الإسلام هو الحل الوحيد للخروج من الهاوية التي تردّى الغربُ فيها، وهو الخيار الوحيد للمجتمعات الغربية في القرن الحادي والعشرين).
- وفي يوم الإثنين الماضي ودّع هوفمان هذه الحياة بعد أن قدّم نموذجاً عملياً على أن النظرة المُنصِفة والفاحِصة للإسلام ستقود صاحبَها -على الأقل- إلى الإيمان بأنه دين عظيم، إنْ لم تهْدِه إلى الدخول في دين الله إيماناً وتصديقاً. ومثل هذه المواقف من شخصياتٍ وازِنة خيرُ دليل على أنّ جهودَ المستشرقين الجُدد في خلق وترسيخ الإسلاموفوبيا قابلة أن تتبدَّد لو أحسنّا استخدام الطرق المناسبة لمواجهتها، ومِن بينها تقديمُ مِثل هذه النماذج الغربية المنصِفة التي درست الإسلام فوجدَتْه - بحقٍّ - دينَ الله القويم، والحلَّ الأمثلَ لمشكلات الإنسان المعاصر.