خطبة الجمعة 15 جمادى الأولى1441: الشيخ علي حسن : الخطبة الثانية: معالجة الهزيمة والصدمة


- ذكرت في الخطبة الأولى أن سورة آل عمران قدّمَت معالجات متنوعة للآثار السلبية المترتبة على الصدمات التي واجهها المؤمنون في غزوة أحُد. ويمكننا تلخيص ذلك في الآتي:
1. معالجات معرفية من خلال نزول مجموعة من الآيات القرآنية التي صحّحت بعض المفاهيم لدى المؤمنين، وبيّنت لهم المعادلات الإلهية، وضربت لهم الأمثال، وأنزلت السكينة على نفوسهم.
- مثال ذلك قوله تعالى في الآية 154 من السورة: (يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَّا قُتِلْنَا هَاهُنَا) من المفترض أن يحمينا الله ويتدخّل لنصرنا، لأننا الطرف الذي يمثّل الإيمان والحق، ولأن انتصارنا يعني انتصار دين الله، وهزيمتنا هزيمة له... هذا خطأ مفاهيمي استدعى المعالجة والتي جاءت في جانب منها كالتالي: (قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ) هناك خطأ في تصوراتكم ومفاهيمكم حول الموت والنصر وما إلى ذلك، وعليكم أن تُدرِكوا سنن الله فيها.
- وهناك معالجات فكرية أخرى أيضاً عرضتها السورة تِباعاً.
2. معالجات نفسية، من بينها ما جاء في قوله تعالى: (ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُم مِّن بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُّعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِّنكُمْ) [آل عمران:154]، ونحن نعلم ما للنوم من تأثير في تهدئة النفس بعد انفعالها.
- ومن بينها الإخبار عن مصير الشهداء: (وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ، فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ) [آل عمران:169-170].
3. معالجات ميدانية: من بينها إعلان العفو الشامل عن كل الذين ارتكبوا مخالفات قبل وأثناء المعركة: (إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ) [آل عمران:155].
- المعالجة الميدانية الثانية تمثّلت في اتخاذ النبي قرار ملاحقة الغزاة، وحرمانهم من نشوة الإحساس بالنصر التام والحاسم، ولإعطاء المؤمنين دفعة معنوية قوية بأنهم يمتلكون عناصرَ القوة وأسبابَ النصر متى ما أخلصوا لله في حركتهم، ومتى ما نصروا الله حقاً في الميدان، ولم تكن حركتُهم لكسب مغانم دنيوية، أو لتحقيق مصالح شخصية.
- ففي صبيحة اليوم الثاني من العودة إلى المدينة، وبعد أن صلى الفجر، أمر النبيُّ بلالاً أن ينادي بالخروج لملاحقة المشركين، وأنْ لا يخرج إلا مَن شَهد القتال في أحُد.
- عقد النبيُّ اللواء لعلي، وتحرك بمن معه ناحية حَمراء الأَسَد (13 كم تقريباً جنوب غرب المدينة ومسجد الشجرة في الوسط بينهما)، فأمر أصحابَه بالنزول هناك وأن يجمعوا الحطب نهاراً ويوقدوه ليلاً، وأقام المؤمنون بذلك المحل ثلاث ليال، وكانوا يوقدون في كل ليلة من تلك الليالي خمسمائة شعلة نار، حتى تُرى من المكان البعيد... فذهب الخبر في كل اتجاه.
- ووفد مَعبَد الخزاعي على المشركين، وكان حليفاً للنبي، فقال: (تركتُ محمداً وأصحابَه خلفي يتحرّقون عليكم بمثل النيران، وقد اجتمع معه مَن تخلّف عنه بالأمس من الأوس والخزرج، وتعاهدوا ألا يرجعوا حتى يلحقوكم فيثأروا منكم، وقد غضبوا لقومهم غضباً شديداً).
- دخل الرعب في قلوب المشركين، وسارعوا في العودة لديارهم خوفاً مما قد يصيبهم.
- وقد أثنى الله (تعالى) على المؤمنين لموقفهم هذا: (الَّذِينَ اسْتَجَابُواْ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِن بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ) [آل عمران:172].
- ويهمّني هنا أن أستعرض ما اختُتمت به سورة آل عمران، حيث قامت الآيات ببيان سُنّةٍ من سنن الله تعالى، وهي بمثابة درس إيماني وتاريخي وعملي لا غنى لنا عنه.
- في البدء، قال الله (تعالى) واصفاً أولي الألباب: (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) [آل عمران:191].
- في أجواء الصراع القائم بين الحق والباطل، هناك مسئوليات، وهي لا تتوقف عند حدّ الاستعداد العسكري والميداني، بل لابد من الإعداد المكثف على المستويين الروحي والفكري أيضاً.
- المسئولية الأخرى تتمثّل في تقوية الارتباط بالله من خلال الدعاء واستمداد القوة من عنده انطلاقاً من الإحساس بالضعف، وأن الأمور كلَّها من عند الله، بما في ذلك النصر: (رَبَّنَا إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ، رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُواْ بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأَبْرَارِ، رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلاَ تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ الْمِيعَادَ) [آل عمران:192-194].
- حينذاك ستترتّب النتيجة الحتمية التي هي بمثابة وعدٍ إلهي، ومن أصدق من الله قيلاً؟ (فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَأُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَأُوذُواْ فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُواْ وَقُتِلُواْ لأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ثَوَابًا مِّن عِندِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ) [آل عمران:195].
- هذا على مستوى الآخرة... فماذا عن الآثار المترتبة على صعيد هذه الحياة؟
- جاء الجواب كالتالي: (لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِي الْبِلادِ) لا تنخدع بظاهر القوة عندهم (مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ) [آل عمران:196-197].
- ثم تُختتم السورة بوصية إلهية تُمثِّلُ زُبدةَ المخاضِ في بيانِ طبيعةِ مسئولياتِ المرحلة: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [آل عمران:200]. أيها المؤمنون، لا تَتخلّوا عن إيمانكم، ولا تَسمحوا للهزيمة بأن تتغلغل إلى نفوسِكم، ولا تَتركوا مَجالاً للضعف بأن يَغلبَكم، وأعينوا بعضَكم بعضاً في هذه الطريق الصعبة، ولا تسمحوا لهذه الصدمات العنيفة بأن تُغرِقَكم في بحرِ الأحزانِ والهموم، فقد أعلمَكم اللهُ مِن قبلُ أنه: (إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) [آل عمران:140]... وسيعلم الذين ظلموا أيَّ منقلب ينقلبون.