خطبة الجمعة 8 جمادى الأولى1441: الشيخ علي حسن : الخطبة الثانية: آيات الله، البتول والزهراء والعقيلة


- أشرت في الخطبة الأولى إلى أن الله تعالى جعل السيدة مريم آية من آياته، وقد جاء ذلك في جانب منه تكريماً وتعظيماً لها، وفي جانب آخر سبباً من أسباب تجلّي قدرته وعظمته.
- لقد اصطفاها الله من بين كل الرجال والنساء في زمانها: (وَإِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ) لتكونين في خدمة بيتٍ عظيمٍ من بيوته (وَطَهَّرَكِ) خلال فترة إعدادِكِ في بيته منذ طفولتك الأولى لتكوني مهيّأة ومُعدّة لحمل المسئولية العظيمة (وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاء الْعَالَمِينَ) لتكوني أماً لولد يولد من غير أب، هو المسيح، وليكون هذا الحمل وهذه الولادة آية من آيات القدرة الإلهية.
- وبذا جعل الله السيدة مريم مظهرَ عظيمِ قدرته في مخالفة السنة البشرية لحصول حَمل أنثى دون أن يقربها ذكر، ليرى الناس مثالاً من القدرة الإلهية على الخلق والبعث.
- ولم يأتِ هذا الاصطفاء الإلهي من فراغ، ولم يتحقق ذلك التطهير من دون سبب، بل إنه وليد
ما كانت تتمتّع به هذه السيدة من صفات جعلتها في مصاف المصطفَين من أنبياء الله ورسله.
- وقد ظهر ذلك منذ بداية نشأتها.. قال تعالى: (وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ) [آل عمران:44].... فلماذا يتنافسون على كفالتها ويقترعون فيما بينهم لولا أن الله قد جعل في هذه الطفلة اليتيمة من الصفات والعلامات ما يدفعهم لذلك؟
- ثم يخبرنا القرآن إلى أن الله أرسل إليها ملائكته في أكثر من مناسبة يحملون إليها كلامه، كما في آية الاصطفاء السابقة، وكما في قوله: (فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا) [مريم:17].
- وهكذا نجد الإكرام الإلهي لها بما جعل نبياً من أنبيائه يتعجّب من ذلك: (فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ) [آل عمران:37].
- كل هذه الأمور جعلت من هذه السيدة المكرَّمة آية من آيات الله عز وجل... في طفولتها المبكرة، وفي نشأتها، وفي حملها وولادتها.
- وما بين الاصطفاء الأول والثاني جاء عنوان التطهير، فلا اصطفاء من دون هذه الصناعة الإلهية الخاصة لعقلها وروحها وسلوكها... فهذه الطهارة هي مدخل هذا الاصطفاء وبوّابته.
- وهكذا نالت مولاتنا الزهراء (ع) مقام الاصطفاء الإلهي. روى الإمام أحمد في "فضائل الصحابة" برقم (1331) ، والحاكم في المستدرك برقم (4853) من حديث أم المؤمنين عائشة أنها: (قَالَت لِفَاطِمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَلَا أُبَشِّرُكِ؟ أَنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " سَيِّدَاتُ نِسَاءِ أَهْلِ الْجَنَّةِ أَرْبَعٌ: مَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ، وَفَاطِمَةُ بِنْتُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَخَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ، وَآسِيَةُ"). وقد صححه الشيخ الألباني في "السلسلة الصحيحة" (3/411) قائلاً: (صحيح على شرط الشيخين).
- هذا الاصطفاء أيضاً لم يأتِ من فراغ، بل جاء من خلال ما اتّصفت به الزهراء (ع) من طهارة الروح والعقل والسلوك، ويشهد بذلك قوله تعالى: (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا) [الأحزاب:33].
- وقد روى المفسرون والمحدّثون عن أم المؤمنين أمّ سلمة: (في بيتي نزلت [إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا] وفي البيت فاطمة وعليّ والحسن والحسين، فجلّلهم رسول الله بكساء كان عليه ثمّ قال: "هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً).
- كانت الزهراء (ع) في كل تفاصيل حياتها آية من آيات الله، في طفولتها المبكّرة حيث كانت أمَّ أبيها، وفي بيت الزوجية حيث كانت خير زوجة وأمّ، وفي علاقتها مع الله ومع الناس، وقد شهد لها الإمام الحسن (ع) حيث قال: (رأيت أمي فاطمة (ع) قامت في محرابها ليلة جمعتها فلم تزل راكعة ساجدة حتى اتضح عمود الصبح، وسمعتها تدعو للمؤمنين والمؤمنات وتسمّيهم وتُكثر الدعاء لهم، ولا تدعو لنفسها بشيء، فقلت لها: يا أماه، لم لا تدعين لنفسك كما تدعين لغيرك؟ فقالت: يا بني، الجار ثم الدار).
- وعلى درب الزهراء سارت ابنتُها العقيلةُ زينب، التي ما إن وقفت بين يدي الطاغوت في الكوفة حتى تجلّت عظمتُها، فكانت في موقفِها الخالد آيةً من آيات الله حيث أجابت على سؤاله إذ قال وهو يعيش نشوة النصر، وسكرة البطَر: (كَيْفَ رَأَيْتِ صُنْعَ اللَّهِ بِأَخِيكِ وَأَهْلِ بَيْتِكِ؟ فما كان منها إلا أن أجابت بمنطق القرآن وعزة الإسلام وقوة الحق وثبات الجَنان: مَا رَأَيْتُ إِلَّا جَمِيلًا، هَؤُلَاءِ قَوْمٌ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْقَتْلَ فَبَرَزُوا إِلَى مَضَاجِعِهِمْ، وَسَيَجْمَعُ اللَّهُ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُمْ فَتُحَاجُّ وَتُخَاصَمُ، فَانْظُرْ لِمَنِ الْفَلْجُ يَوْمَئِذٍ، ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يَا ابْنَ مَرْجَانَةَ).
- واليوم إذ تجتمع ذكرياتٌ ثلاث ترتبط بالبتول مريم، وبالزهراء فاطمة، وبالعقيلة زينب، نحتاج إلى أن نتوقف قليلاً مع هذه الآيات من آيات الله، لنختبر عمقَ ارتباطِنا الإيمانيِّ بها، لا العاطفيِّ فحسب، لأنّ الارتباطَ الإيماني العميق هو الذي يكفلُ لنا سلامةَ المسيرةِ في سلامةِ الفكرِ والروحِ والسلوكِ، وما هذه التناقضات التي يعيشها الكثيرون ما بين العنوان الذي يحملونه، والعاطفة التي تجيشُ في الصدور من جهة، وما بين الواقع الذي لا يتناغم وطبيعة هذا الارتباط مع مَن مثّلوا – وما زالوا يمثّلون- قِمَماً مِن قِمَم الطهارة في العقل والروح والعمل، إلاّ خيرُ شاهد على ضرورة مثل هذه الوقفات التقييمية مع الذات.