خطبة الجمعة 24 ربيع الآخر1441: الشيخ علي حسن : الخطبة الثانية: ذوو الاحتياجات الخاصة.. تصورات ومواقف

- كيف تعامَلت البشرية مع ذوي الاحتياجات الخاصة (المعاقين)؟ وكيف تَميّز الإسلام في هذه القضية؟ وهل ترتقي سلوكياتنا اليوم في مراعاة خصوصياتهم النفسية والعقلية والجسدية؟
- بعض الأمم في الماضي كانت تنظر إلى ذوي الاحتياجات الخاصة بنظرة، وتتعامل معهم بطريقة، أقل ما توصف به أنها لا إنسانية... بل وقد تصل أحياناً إلى درجة الوحشية.
- الصحفية والمؤلفة (كاثرين كورمبي) متخصصة في الشئون الاجتماعية، وكتاباتها ذات طابع تحقيقي، وحاصلة على عدة جوائز، ذكرت في كتابها (كبش الفداء.. لماذا نخذل المعاقين؟) Scapegoat: Why We Are Failing Disabled People الصادر في 2011 صوراً عديدة لمنطلقات الناس في تصوراتهم ومواقفهم السلبية عبر التاريخ تجاه ذوي الاحتياجات الخاصة.
- من بين هذه المنطلقات التي جاءت في هذا المصدر ومصادر أخرى، اعتقاد الناس بوجود:
1. قوى سحرية أو شريرة جعلتهم بهذه الصورة، وأنهم لا يَجلبون لمن حولَهم إلا النحس والشر.
2. غضب من الآلهة تجاههم، مما يؤدي إلى نبذهم، ومن ثم صيرورتهم تحت تصرّف الشياطين.
3. أثر اجتماعي سلبي، لأن تناسلهم سيؤدي إلى ضعف المجتمع من خلال إيجاد نسل ضعيف يتوارث هذه الإعاقة، وقد قال إفلاطون في كتابه (الجمهورية) بوجوب قتل الأطفال المعاقين.
- ولذا نجد الإغريق يعمدون إلى قتل الأطفال المعاقين... وأهل إسبارطة يُلقون بهم من أعالي الجبال ليكونوا طعاماً للحيوانات والطيور المفترسة.. كما نصّ القانون الروماني على إعدام الأطفال المعاقين أو المشوّهين، وكان يتم ذلك بالرجم غالباً، وغاية الرحمة بهم أن يتم تحويلهم إلى عبيد.
- وفي المسيحية انقسم رأي الكنيسة، حيث رأى بعض رجال الدين أن الإعاقة عقاب إلهي للإنسان بسبب ذنوبه، ويتم ذلك بإنجاب طفل معاق، أو بإصابة الفرد نفسه بالإعاقة لاحقاً.
- ويُذكر أن (مارتن لوثر) مؤسس البروتستانتية طلب من أحد الحكّام أن يُغرق طفلاً معاقاً، وعندما تم الاعتراض على ذلك من قبل البعض، برّر لوثر طلبه بأن البديل هو أن يواصل المسيحيون الصلاة يومياً لطرد الشيطان المستحوذ على الصبي، فأيهما أهون؟!
- وللإنصاف، هناك في الكتاب المقدس توصيات بمساعدة بعض الفئات، كالعُمي، ولكن هناك أيضاً ما يُرشد إلى أن بعض الإعاقات ناتجة عن المعاصي، وأن للشياطين تسلطاً على المعاقين.
- والجاهليون العرب كانوا يعتبرون أن الجن هم الذين يؤثّرون في الطفل فيجعلونه معاقاً، وكانوا يتشاءمون من ذوي الإعاقات، ولا يجالسونهم على طعام.
- وعندما بعث الله محمداً (ص)، قدّم رؤية مختلفة بخصوص ذوي الإعاقات، واعتبرهم جزءً من المجتمع، لهم من الحقوق ما لغيرهم، وخفّف عنهم بعض التكاليف بما يتناسب مع قدراتهم، بل
وأسقطها عن ذوي الإعاقات الذهنية، وطالب المسلمين باحترامهم وإعانتهم.
- واحدة من الآيات القرآنية التي عالجت مسألة ترتبط بنموذجين من ذوي الإعاقات قوله تعالى: (لَّيْسَ عَلَى الْأَعْمَىٰ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلَا عَلَىٰ أَنفُسِكُمْ أَن تَأْكُلُوا مِن بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ....) [النور:61]، وهذا راجع إلى التحرّز من مجالستهم على طعام.
- وحرّم السخرية منهم ونبزهم بالألقاب المسيئة: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) [الحجرات: 11].
- وعن النبي (ص): (من كفى ضريراً حاجة من حوائج الدنيا ومشى فيها حتى يقضي الله له حاجته أعطاه الله براءة من النفاق، وبراءة من النار، وقضى له سبعين حاجة من حوائج الدنيا،
ولا يزال يخوض في رحمة الله عز وجل حتى يرجع).
- وعنه (ص): (لا تُديموا النظر إلى أهل البلاء والمجذومين؛ فإن ذلك يُحزنهم).
- وعن الإمام الصادق (ع): (إسماع الأصم من غير تضجّر صدقةٌ هنيئة).
- وفي عهد الإمام علي لمالك الأشتر توصية خاصة بهم: (ثُمَّ اللهَ اللهَ فِي الطَّبَقَةِ السُّفْلَى مِنَ الَّذِينَ لاَ حِيلَةَ لَهُمْ وَالْمَسَاكِين وَالْـمُحْتَاجِينَ وَأَهْلِ الْبُؤْسَى وَالزَّمْنَى) أي الإعاقات (فإِنَّ فِي هذِهِ الطَّبَقَةِ قَانِعاً وَمُعْتَرّاً، وَاحْفَظْ لله مَا اسْتَحْفَظَكَ مِنْ حَقِّهِ فِيهِمْ، وَاجْعَل لَهُم قِسْماً مِن بَيْتِ مَالِكَ، وَقِسماً مِنْ غَلاَّتِ صَوَافِي الإسْلاَمِ فِي كُلِّ بَلَد......) أي أن الله جعل لهؤلاء حقاً في أموال الناس وفي المال الذي بيد الدولة ليكون معيناً للمحتاج منهم ولتأمين احتياجاتهم العلاجية والرعائية.. إلخ (فَلاَ يَشْغَلنَّكَ عَنْهُمْ بَطَرٌ....) بحيث ترى أنك أنجزت مهاماً كبرى، وبالتالي يُغتفَر لك إهمال هذه الفئة (فَلاَ تُشْخِصْ هَمَّكَ عَنْهُمْ، وَلاَ تُصَعِّرْ خَدَّكَ لَهُمْ، وَتَفَقَّدْ أُمُورَ مَنْ لاَ يَصِلُ إِلَيْكَ مِنْهُمْ مِمَّنْ تَقْتَحِمُهُ الْعُيُونُ وَتَحْقِرُهُ الرِّجَالُ، فَفَرِّغْ لأولئِكَ ثِقَتَكَ مِنْ أَهْلِ الْخَشْيَةِ وَالتَّوَاضُعِ، فَلْيَرْفَعْ إِلَيْكَ أُمُورَهُ بَالإعْذَارِ إِلَى اللهِ تَعَالَى يَوْمَ تَلْقَاهُ، فَإِنَّ هؤُلاَءِ مِنْ بَيْنِ الرَّعِيَّةِ أَحْوَجُ إِلَى الإنصَافِ مِنْ غَيْرِهِمْ).
- هذه النظرة الإنسانية والتشريعات المنصِفة والتوصيات الأخلاقية دفعَت المسلمين للتعامل مع ذوي الاحتياجات الخاصة بعيداً عن التصورات الخرافية في منشأ الإعاقة، والنظرات التحقيرية، والتشريعات الظالمة بحقّهم، كما شجّعت المسلمين والدولة للمساهمة في التخفيف من معاناتهم.
- وفي العصر الحديث، برز الاهتمام بذوي الاحتياجات الخاصة على أكثر من مستوى، وصدر في عام 1975 عن الجمعية العامة للأمم المتحدة الإعلان الخاص بحقوق المعاقين، واشتمل على 13 بنداً، تتضمّن حقوقهم الشخصية والمدنية والاجتماعية والتعليمية والاقتصادية والسياسية وغيرها.
- وفي عام 1992 تم تحديد يوم 3 ديسمبر من كل عام يوماً عالمياً لذوي الاحتياجات الخاصة، وهو يهدف إلى التوعية لقضايا الإعاقة، ودعم التصاميم الهندسية والمرورية المناسبة لهم، وإشراكهم في الحياة السياسية والاقتصادية والثقافية.
- ومؤخراً، تم استبدال مصطلح المعاق بمصطلح أرفق هو مصطلح (ذوي الاحتياجات الخاصة)،
- في الكويت، نجد أن المادة (11) من الدستور تنص على: (تكفل الدولة المعونة للمواطنين في حالة الشيخوخة أو المرض أو العجز عن العمل كما توفر لهم خدمات التأمين الاجتماعي والمعونة الاجتماعية والرعاية الصحية).
- ومن هنا تم تأسيس الكثير من المشاريع التربوية والتعليمية والصحية والرعائية الخاصة بذوي الاحتياجات الخاصة، وبرامج التوعية، وسن وتنظيم القوانين الخاصة بهم.
- والسؤال المهم: هل يرتقي مجتمعنا اليوم في نظرته وتعامله مع ذوي الاحتياجات الخاصة إلى المستوى المتناغم مع كل ما سبق في المنظور الإسلامي والأممي والدستوري؟ خذ هذا المثال:
- واحدة من التشريعات التنظيمية ما يخصّ تحديد مواقف خاصة لذوي الاحتياجات الخاصة لتيسير وصولهم إلى مقصدهم، وينص القانون على الحبس والغرامة المالية وسحب الرخصة في بعض حالات استغلال هذه المواقف من قبل الآخرين... فإلى أي مدى يتم اليوم الالتزام بذلك؟
- وحيث من المفترض أنه كلما مرّ الوقت على وضع القوانين كلما ازداد وعي المجتمع بها، وازداد امتثالاً وتطبيقاً لها، إلا أننا نجد أحياناً أن المسألة معكوسة، والسبب:
1. غياب الوجدان الأخلاقي والحس الرقابي لدى الفرد، وقد تحدثت عن أثره في الخطبة الأولى.
2. تراخي الجهات المسئولة بعد شهر أو شهرين من الحماسة الكبيرة في تطبيق هذا القانون وغيره من القوانين، بما يشجع المواطن والوافد على حد سواء للتجرّؤ على المخالفة.
3. التدخل السلبي من قبل أصحاب الوساطات.
فليجعل كلٌّ منا نفسَه ميزاناً بينه وبين الناس، ولنضع أنفسنا موضع صاحب الحق؟ ولنكُن منصفين – عندما تغيب عين الرقيب – ونجعل تصرفاتنا تجاه حقوق الآخرين على الأقل بما يمليه علينا وجداننا الأخلاقي، ثم لننظر هل يمكن لمثل هذه التصرفات اللا قانونية واللا أخلاقية أن تكون مقبولة ومستحسنة؟