خطبة الجمعة 17 ربيع الآخر1441: الشيخ علي حسن : الخطبة الثانية: حرب المصطلحات


- للكلمة معنى، ولربما معان متعددة... فكلمة (عين) لها أكثر من معنى، فقد يُراد بها العين الباصرة، وقد يُراد بها عين الماء... ولكن هناك بُعدٌ آخر لبعض الكلمات، وذلك حين تتحوّل إلى مصطلحات لمعانٍ خاصة ذات دلالة معيّنة... وهذا قد يتم عن طريق الفرض أو بالتوافق.
- مثلاً، كلمة (مذياع) لها معنى، وهو (الذي لا يكتم السِّرَّ)، ثم تمّ اختيار هذه الكلمة لتكون مصطلحاً يدل على جهاز الراديو.
- والكلمات والمصطلحات قد تُستعمل أحياناً بطريقة مقصودة من أجل التأثير في المستمع وتوجيهِه باتجاهٍ معيّن يريدُه المستعمِل... وقد تُستعمَل دون التفات إلى نتائجها السلبية.
- وقد نبّه القرآن إلى مسألة التلاعب بالكلمات والمصطلحات ودلالاتها، ومثال ذلك قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ) [البقرة:104]، والآية تنهى المؤمنين عن استعمال كلمة (راعنا) في خطابهم للنبي واستبدالها بكلمة (انظرنا).
- ولنلاحظ التشديد في الآية بضرورة الالتزام بهذا النهي الإلهي إلى المستوى الذي يكون فيه عدم الالتزام به عن عمد وإصرار بعد النهي كُفراً (وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ)!
- ما مُشكلة هذه الكلمة، وهي كلمة عربية ولا تَحمل في طيّاتها دلالة سلبية، ففي العربية يقال: (راعيتُ الأمرَ: أي نظَرْتُ إلامَ يصير) وبتعبير آخر: (أمهِلنا وارفق بنا)؟
- في سورة النساء توضيح لذلك: (مِّنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَٰكِن لَّعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا) [النساء:46].
- كانت اليهود تَسابُّ بكلمة (راعنا) فيما بينها لدلالتها على الرعونة، وكانوا يسُبُّون النبي (ص) في نُفوسِهِم، فلما سَمِعوا هذه الكلمة في خطاب المؤمنين للنبي، اغتنموا أَن يُظهروا سبّه بلفظٍ يُسمَع ولا يَلحقهم في ظاهره شيء؛ فبيّن الله للنبي والمؤمنين ما أضمره اليهود، ونَهَى عن استعمال الكلمة.
- وبالأخذ بعين الاعتبار الملاحظتين السابقتين تبرز لدينا أهمّية الاعتناء بالكلمات والمصطلحات التي نستعملها للدلالة على بعض الأمور، والتي قد نُوجَّه مِن خلالها لتكوين تصوّرات أو تبنّي أفكار أو اتخاذ مواقف سلبية أو إيجابية تجاهها.
- أي أننا لو استعملنا الكلمة المناسبة أو المصطلح الأصيل لهذا الشيء لكان رأيُنا أو موقفُنا مغايراً عمّا هو عليه الآن بسبب التوجيه غير المباشر الذي قام به البعض لغايات خاصة.
- فلكلمة (خمر) دلالة سلبية في أذهان المسلمين، ولكن عندما يتم استبدال هذا المصطلح بمصطلح (مشروبات روحية)، فإن هذا العنوان ليس فقط لن يحمل في داخله تلك الدلالة السلبية، بل ويتضمّن معنىً جميلاً يرتبط بالروح والروحانية... وهكذا قارن بين دلالة مصطلح (زنا) ومصطلح (علاقات نسائية.. علاقات حميمية)... (شذوذ جنسي) في مقابل (مثلية جنسية)... (مخدِّرات) في مقابل (حشيشة الكيف)... إلخ.
- وهكذا يتم استعمال مصطلح (عرب إسرائيل) بدلاً من الفلسطينيين... ففي الوقت الذي جاء فيه اليهود من أصقاع العالم واحتلّوا أراضي الفلسطينيين، وأسسوا دولتهم بالقوة والإرهاب، أصبح المحتل المعتدي هو الأصل وهو صاحب الأرض، وإليه يُنسَب الآخرون وكأنهم أقلية وافدة.
- وقد يُعمَد إلى استحداث مصطلح لمفهوم جديد، ولكن يُراعى فيه التخفيف من وطأة الأمر وتزيينه دون أن يكون هناك مصطلح سابق له. مثال ذلك مصطلح (الحرب الناعمة) والتي تشمل: أي نوع من العمليات النفسية أو الدعائية أو الإعلامية أو الثقافية التي تستهدف مجتمع ما أو مجموعة محددة من الناس، وتدفعهم نحو الانفعال أو الانهزام بدون قتال عسكري أو استعمال القوة. وتهدف هذه العمليات إلى سحق فكر المجتمع المستهدَف كي تضعف مكوّناته الفكرية والثقافية، وتُشيع عدم الاستقرار والتزلزل في النظام السياسي والاجتماعي السائد. تتسع الحرب الناعمة لكل الإجراءات التي تتم من خلال الحرب الكمبيوترية والأنشطة الانترنتية وصولاً إلى تأسيس شبكات إذاعية وتلفزيونية وموارد أخرى.
- يمكن لاعتماد مصطلحات بديلة عن المصطلحات الأصلية أن يعمل على تضييع المفاهيم وتمييعها وتغيير مدلول المصطلح الأصيل أيضاً. ومثال ذلك استبدال مصطلح (الإيمان) بمصطلح (العقيدة).. فالأول مصطلح قرآني له حدوده ومدلولاته الواضحة في القرآن، أما المصطلح الثاني فمستحدث من قبل بعض علماء المسلمين.
- وعندما تم استبدال المصطلح القرآني بمصطلح بشري وضعي، تمكّن مبتدعوه من إدخال ما شاءوا من عناوين لتكون بمثابة الأسس الفكرية التي من خلالها يُحكَم بدخول الفرد في دائرة الدين أو المذهب وعدمه... فظهرت لدينا عقيدة السلفية، وعقيدة الإمامية، وعقيدة الأشاعرة... إلخ.
- ووضع أتباعُ كلِّ (عقيدة) الحدودَ التي ارتأوا مِن خلالها أن هذا الفرد داخل في دائرة الدين أم لا.
- وهذا بدوره أدّى إلى تمييع مدلول (الإيمان- المؤمنون)، أي أنه أثّر على مدلول المصطلح الأصيل وضيّع حدوده، على الرغم من أنّ القرآن بيّن ما هي حدود الإيمان، وما هي الأمور التي
إن آمن بها الفرد أصبح مؤمناً في مفهوم القرآن، ومشمولاً بخطاب (يا أيها الذين آمنوا).
- إن الأمثلة السابقة، وغيرُها كثير، تؤكد أهميةَ المحافظة على المصطلحاتِ الأصيلةِ للمفاهيم، والتنبّهِ إلى المصطلحاتِ المستحدثةِ التي قد يُعمَدُ نشرُها لغايات سياسية أو فكرية أو مالية، فقد باتت حرب المصطلحات أداة من أدوات الجيل الرابع من الحروب، وهو الجيل الذي يستخدم كل الوسائل المتاحة لخلق دُولٍ ضعيفةٍ مُنهَكةٍ تستجيبُ للنفوذ الخارجي، وبحسب البروفيسور ماكس مانوارينج في ندوة ألقاها بمعهد دراسات الأمن القومي الاسرائيلي: (إذا فعلتَ هذا بطريقةٍ جيدةٍ وببطءٍ كاف، فسيستيقظُ عدوُّك ميتاً).