خطبة الجمعة 17 ربيع الآخر1441: الشيخ علي حسن : الخطبة الأولى: أتريد أن يبقى ذِكرُك حياً؟

- بموت الإنسان يموت ذِكرُه بين الناس إلا اللهم مِن قبل مَن عاصروه... زوجته، وأبناؤه، وأصدقاؤه، ولربما يمتدّ ذِكرُه إلى الجيل اللاحق من خلال أحفاده الذين عاصروه قبل وفاته.
- ولكن بعد ذلك، عادةً ما يختفي ذِكر هذا الإنسان، وتزول من الأذهان معالمُ حياته، ولا يبقى إلا اسمُه دائراً على ألسن الأجيال اللاحقة التي تنتسب إليه، فيقال: فلان بن فلان بن فلان.
- ومن طبيعة كثيرٍ من الناس أنهم يودّون أن يخلدوا في هذه الحياة، ولو على مستوى الذكرى، فتجد بعضهم يعمد إلى حفر اسمه على الصخر وجذوع الأشجار أملاً في أن يبقى باقياً ببقائها، وهو يدرك بأن لا قيمة كبيرة في ذلك، لأنه لو قُرء اسمُه بعد أجيال، فلن يعرف أحدٌ مَن هو.
- إلا أننا نجد في بعض النصوص توجيهات حول كيفية كسر هذه القاعدة، ومن بين ذلك:
1) في الحكمة 144 من نهج البلاغة: (يَا كُمَيْل بْن زِيَادٍ، مَعْرِفَةُ الَعِلْمِ دِينٌ يُدَانُ بِهِ، بِهِ يَكْسِبُ الْإِنْسَانُ الطَّاعَةَ فِي حَيَاتِهِ، وَجَمِيلَ الأُحْدُوثَةِ بَعْدَ وَفَاتِهِ.... يَا كُمَيْل بْن زِيادٍ، هَلَكَ خُزَّانُ الْأَمْوَالِ
وَهُمْ أَحْيَاءٌ، وَالْعُلَمَاءُ بَاقُونَ مَا بَقِيَ الدَّهْرُ: أَعْيَانُهُمْ مَفْقُودَةٌ، أَمْثَالُهُمْ فِي الْقُلُوبِ مَوْجُودَةٌ).
- فالعلم يُكسِب الإنسان الامتداد في الحياة، وعلى مدى قرون طويلة، وليس بالضرورة أن يكون في الإطار الديني، وإن كان الإسلام يَعتبر العلم في الدين في مقدمة العلوم وأهمِّها.
- أرسطو وإفلاطون وأبقراط والفارابي وابن الهيثم وأبو بكر الرازي وكانت وأديسون وآينشتاين وغيرهم ما كانوا علماء دين، ولكنهم خلدوا من خلال علومهم.
- العلم النافع بحدّ ذاته يُحقق هذه النتيجة، ويَكتب للإنسان امتداداً في الزمن ولو غادر الحياة قبل ألف عام.
2) الصدقة الجارية، ومن ضمنها الأوقاف، وهي صدقاتٌ تبقى عينُها عادة لمُدَدٍ طويلة، وتكون غالباً أكثرَ نفعاً من الصدقات المعتادة، ولها صور كثيرة، وإن كان الناس يحصرونها غالباً في قوالب محددة من قبيل المسجد والحسينية.
- الرحالة الشهير ابن بطوطة وقف منبهراً بما رآه في أوقاف دمشق في القرن الثامن الهجري فقال: (والأوقاف بدمشق لا تُحصر أنواعُها ومصارفُها لكثرتها؛ فمنها أوقافٌ على العاجزين عن الحجِّ، يُعطى لمن يحجّ عن الرجل منهم كفايتَه، ومنها أوقاف على تجهيز البنات إلى أزواجهنَّ، وهنَّ اللواتي لا قدرة لأهلهنَّ على تجهيزهنَّ، ومنها أوقاف لفكاك الأسارى، ومنها أوقاف لأبناء السبيل؛ يُعطون منها ما يأكلون ويلبسون ويتزوَّدُون لبلادهم، ومنها أوقاف على تعديل الطرق ورصفها).
- ويروي أيضاً حادثة مؤثّرة عاينها بنفسه: (مَررتُ يوماً ببعض أزقَّة دمشق، فرأيت به مملوكاً صغيراً قد سقطت من يده صَحفةٌ من الفَّخار الصيني، وهم يُسَمُّونها الصَّحْن، فتكسرت واجتمع عليه الناس، فقال له بعضهم: اجمع شُقَفَها، واحملها معك لصاحب أوقاف الأواني. فجمعها، وذهب الرجل معه إليه، فأراه إيَّاها، فدفع له ما اشترى به مثلَ ذلك الصحن... فكان هذا الوقف جبراً للقلوب، جزى الله خيراً مَن تسامت همَّته في الخير إلى مثل هذا).
- وكان المسلمون يُبدعون في أوقافهم، يقول ابن بطوطة أن الواقف كان يَذكر في نصِّ الوقفيَّة وجوب تقديم طعام كلِّ مريض في إناء مستقلٍّ خاصٍّ به، ووجوب تغطيتها وإيصالها إلى المريض بهذا الشكل، وقد خُصِّص في البيمارستانات "المستشفيات" قاعات مستقلة للمؤرَّقين من المرضى؛ إذ كانوا يُعزلون فيها، فيُشَنِّفون آذانهم بسماع الأناشيد، والاستماع إلى القصص حتى يغلبَهم النوم!
- وفي مدينة طرابلس اللبنانية كان ريع إحدى الأوقاف مخصَّصاً لتوظيف اثنين يمرَّان في المستشفيات يوميّاً؛ فيتحدَّثان بجانب المرضى حديثاً خافتاً؛ ليَسْمَعَه المريض بما يوحي له بتحسُّنِ حالته، واحمرار وجهه، وبريق عينيه!
- كلٌّ منا يتمنى أن يكون مصداقاً من مصاديق قوله تعالى: (وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ) وإن كان المصداق الأمثل للآية هو رسول الله (ص)، إلا أنّ هذا لا يمنع أن نسعى جميعاً، وكلٌّ بحسبه أن يكون ممّن يرفع الله ذِكرهم، ويمتدّ وجودُهم في هذه الحياة من خلال عناوين الخير وإن غادروها.