خطبة الجمعة 10 ربيع الآخر1441: الشيخ علي حسن : الخطبة الثانية: تغوّل رجال الأعمال والصناعة

- قدّم أمير المؤمنين (ع) في عهده لمالك الأشتر مجموعة من التوصيات والملاحظات بخصوص التعامل مع كبار رجال الأعمال والصناعة، قال (ع): (ثُمَّ اسْتَوْصِ بِالتُّجَّارِ وَذَوِي الصِّنَاعَاتِ، وَأَوْصِ بِهِمْ خَيْراً) أي عليك أن تتعامل مع هذه الفئة بعناية كبيرة، وأن توصي الآخرين بذلك أيضاً.
- ثم بيّن (ع) بعد ذلك السبب في هذه العناية الخاصة بهم، فهم الذين تتوفّر من خلالهم البضائع والمصنوعات التي يحتاج إليها الناس، ومن دون هذه الحركة الاقتصادية في السوق، لا يمكن تحقيق التنمية في أي مجتمع.
- الميزة الأخرى التي ذكرها الإمام (ع) لهذه الفئة أنها عادةً ما تكون فئة مسالمة مهادنة للحكم، لا تُحب الدخول في الأعمال العنيفة، على عكس العسكريين مثلاً، فقد يثورون أو ينقلبون على الحكام في أية لحظة.... أما فئة رجال الأعمال والصناعة فليسوا كذلك، قال (ع): (فَإِنَّهُمْ سِلْمٌ لاَ تُخَافُ بَائِقَتُهُ، وَصُلْحٌ لاَ تُخْشَى غَائِلَتُه) أي غدره.
- وهذا يستدعي من الحاكم أن يتفقّد أمورَهم، في المناطق القريبة والبعيدة، ويَرفع العوائق أمام أنشطتهم، ويوفّر لهم التسهيلات، قال (ع): (وَتَفَقَّدْ أُمُورَهم بِحضرَتِك، وفِي حَوَاشِي بِلادِكَ).
- هذا الكلام الإيجابي عنهم كان مَدخلاً لبيان بعض السلبيات الكامنة أو الطارئة التي قد تُعكِّر هذه الصورة الجميلة التي تم تقديمها عنهم، وكيفية التعامل معها درءً للمفاسد التي قد تترتب عليها.
- قال (ع): (وَاعْلَمْ - مَعَ ذلِكَ - أَنَّ فِي كَثِيرٍ مِنْهُمْ ضِيقاً فَاحِشاً، وَشُحّاً قَبِيحاً، وَاحْتِكَاراً لِلْمَنَافِعِ، وَتَحَكُّماً فِي الْبِيَاعَاتِ، وَذلِكَ بَابُ مَضَرَّةٍ للعَامَّةِ، وَعَيْبٍ عَلَى الْوُلاَةِ).
- أي سيُحمِّلُ الناسُ المسئولين السياسيين مسئولية هذا الغلاء والاحتكار والتلاعب في الأسواق، على الرغم من أن ذلك صادر – بشكل مباشر - عن رجال الأعمال والصناعة، ولكنّ الناس يعتبرون أن الإدارة السياسية مسئولة عن وضع التشريعات ومراقبة الأسواق واتخاذ التدابير الكفيلة بمنع مثل هذه المظاهر السلبية والإضرار بهم في معاشِهم وأوضاعهم الاقتصادية.
- ومن هنا كان من الضروري على المسئولين السياسيين أن:
1. يتّخذوا التدابير اللازمة لمنع بروز مثل هذه الظواهر السلبية.
2. يُنزلوا العقوبة العادلة والمناسبة بالمخالفين دون مبالغة.
3. لا يتراخوا في ذلك مراعاةً لبعض المصالح أو خوفاً من ردّة فِعل بعضهم.
- لأن رضا العامة مقدَّم على رضا الخاصة وقطع الأعناق ولا قطع الأرزاق: (فَامْنَعْ مِنَ الاحْتِكَارِ فَإِنَّ رَسُولَ اللهِ(ص) مَنَعَ مِنْهُ. وَلْيَكُنِ الْبَيْعُ بَيْعاً سَمْحاً: بِمَوَازِينِ عَدْلٍ، وَأَسْعَارٍ لاَ تُجْحِفُ بِالْفَرِيقَيْنِ مِنَ الْبَائِعِ وَالْمُبْتَاعِ، فَمَنْ قَارَفَ حُكْرَةً بَعْدَ نَهْيِكَ إِيَّاهُ فَنَكِّلْ بِهِ وَعَاقِبْهُ مِن غَيْرِ إِسْرَافٍ).
- السلبية الأخرى التي قد تبرز في إدارة أي مجتمع وتفتح باباً واسعاً للفساد وللإخلال بمنظومة الحكم في المجتمع، هو عدم التزام كل فئة بالدور المأمول منها في تحقيق التنمية في المجتمع، وسعيها لأخذ دور آخر في إدارة الأمور.
- فالعسكريون -مثلاً- فئة لها مهمّتها في حفظ الأمن، ومن الإيجابية أن تُحيَّد عن التدخّل المباشر في الأمور السياسية، ولذا فهي تُمنَع في بعض البلاد – كالكويت - من المشاركة في الانتخابات التشريعية، وهذه ميزة إيجابية، لأن لدخول العسكريين في عالم السياسة تبعات سلبية.
- وهكذا الأمر فيما لو تطلّع رجالُ الأعمال والصناعة إلى السيطرة على عالم السياسة والحكم.
- لا أعني هنا أن لا يكون لهذه الفئة أيُّ دور في العملية السياسية، ولكن أقصد أن دخولهم المباشر لعالم السياسة وإدارة الأمور في المجتمع بحيث يكون لهم التأثير الأكبر في السياسات والقرارات يُعدُّ أمراً سلبياً، ويخلّ بالإدارة المتوازنة لأمور المجتمع.
- الباحث الأمريكي (داريل ويست، نائب رئيس معهد بروكينغز) في كتابه (المليارديرات: تأمّلات في التأثير السياسي للنخبة) يقارن بين نموذجين من الأثرياء الأمريكيين، نموذج (بيل غيتس) الذي يحترم الاستقلالية المؤسساتية، ويساهم في عجلة التنمية في بلاده من خلال مبادراته التعليمية والصحية التي تخدم كافة فئات الشعب الأمريكي، في مقابل نموذج يضم 20 بليونيراً يسخّرون ثراءهم لتحقيق مصالح شخصية من خلال التدخل المباشر في التوجهات السياسية لواشنطن.
- ويَطرح الكاتب عدة تساؤلات: هل يمكن لهؤلاء منع بعض التشريعات؟ ولماذا انتقل الأثرياء من مناصرة السياسات إلى صياغتها؟ لماذا يُدير الأثرياء أعمالهم من خلال أكثر من اثنتي عشرة دولة؟ وما علاقة هذا الحجم من الأعمال بسياسات الدول المختلفة؟
- ثم يطلق (ويست) تحذيره - الذي يَعتبره بمثابة نظام إنذار مبكر – حول مخاطر التمادي في ممارسة السلطة الكامنة في الثروة المادية، والتأثير على التوجهات السياسية الرسمية.
- هذه في الحقيقة هي الطبيعة البشرية، إن تُرك لها المجال تغوَّلت وازدادت مطامعها.
- ودخول رجال الأعمال والصناعة في عالم السياسة بشكل مباشر وقوي لا يكون - في الغالب - تقرُّباً إلى الله، ولا حباً في الأوطان، ولا عطفاً على عامة الناس، بل رغبةً في أن يكون ذلك مَدخلاً لتحقيق المزيد من الثروات، ولمزيد من التوسُّع في إمبراطورياتهم التجارية أو الصناعية، وتسخير السياسة الداخلية والخارجية لمصالحهم الشخصية.
- ومرّ بنا قبل قليل تحذير الإمام (ع) من ذلك حين تحدّث عن بعض الصفات السلبية في كثير منهم، كالشح والاحتكار والتحكّم في الأسعار وما إلى ذلك.
- مثل هذا التغوّل والخروج عن الدور الوظيفي الطبيعي في المجتمع، كفيل بالتدمير التدريجي لكل مقوِّمات التنمية والنهضة فيه، لأنه سيكون باباً لتوظيف ثروات البلد وسياستِه وتشريعاتِه لصالح أفرادٍ معدودين، أو مجموعةِ أُسَرٍ ثريّة، على حساب الطبقة المتوسطة والفقيرة، وبما قد يُلغي تدريجياً الطبقة المتوسطة التي تمثِّلُ عصباً مهماً في تحقيق الحيوية لأي مجتمع، وإيجاد حالة من الطبقية الحادة، بما يستتبع الكثير من النتائج السلبية على المستويات المختلفة.
- من هنا بيّن الإمام (ع) ضرورة وجود حالة وقائية رقابية: (وَتَفَقَّدْ أُمُورَهم بِحضرَتِك، وفِي حَوَاشِي بِلادِكَ) ووضع تشريعات وإجراءات قانونية حازمة وغير مُهادنة ولا مُحابية، تصل أحياناً إلى حد إنزال العقوبة العادلة فيما لو تحوّل بعض أفراد هذه الفئة من أداء دورهم الإيجابي إلى دورٍ سلبي يُلحِق الضرر بالمجتمع ككل.
- وبعد الإعلان الصريح من سمو أمير البلاد حول ضرورة مواجهة الفساد في الدوائر الحكومية وما تبلور عن ذلك من تعيين رئيسٍ جديدٍ للوزراء، والإعلان عن التريّث في تقديم التشكيلة الوزارية، رغبةً في تحقيق توليفة قوية، نظيفة اليد، وصاحبة رؤية تنموية جادّة، بعد هذا كله، فإنه بات من الضروري للجهات المسئولة في السلطات الثلاث من الالتفات إلى العديد من الملفات الحساسة، ومن بينها الملف الخاص بظهور بوادر تغوّلِ بعضِ رجال الأعمال على حساب مصالح الوطن والمواطنين. فإذا كانت السلطة التنفيذية اليوم قادرة على سدّ تبعات وقوع المواطنين في أزمات مالية كبيرة بصورة أو بأخرى، أو ردم الفوارق الطبقية الحادة والمحافظة على وجود الطبقة المتوسطة، فإنه قد يأتي اليوم الذي تعجز فيه عن الاستمرار في القيام بهذا الدور، وتُصبح المشكلة أكبر من أن تُعالَج، ولن يكون بمقدورها حينذاك سوى تقديم حلول ترقيعية ومؤقتة لا تُزيل مكامن الخلل، ولا تُعالِج آثارَه بصورة حقيقية.