خطبة الجمعة 25 ربيع الأول 1441: الشيخ علي حسن : الخطبة الثانية: القطرة والكأس سيّان


- طرحت في الخطبة الأولى إشكالاً حول السبب في تحريم شرب قطرة الخمر، أو أكل لحم الخنزير بعد رفع مضارّه، أو الاستماع إلى مقدار بسيط من الغناء والموسيقى المحرمة، أو استمرار وجوب الصلاة إذا استطعنا أن نبني الشخصية الصالحة المتزنة من دون الالتزام بها.
- وسأجيب عن هذا الإشكال كما يلي:
1- عندما توضع إشارات المرور لتنظيم السير في التقاطعات، ويكون قائد المركبة عند التقاطع في وقت لا توجد فيه أية سيارة أخرى في الاتجاهات المختلفة، وتكون الإشارة الضوئية حمراء، هل سيسمح له القانون بتجاوز الإشارة مع تأكّده بأنه لن تكون هناك أية أضرار ولا مفاسد، لا على المستوى الشخصي، ولا بحق الآخرين، ولا بحق القانون لعدم وجود أحد يمكن أن يتأثّر؟
- بالتأكيد أن الإجابة بالنفي، وأن كاميرا المراقبة أو شرطي المرور لو كان حاضراً سيحرِّر له مخالفة... ولو اشتكى قائد المركبة رافضاً المخالفة، فهل ستُقبَل شكواه؟ أو إذا رفع قضية ضد
إدارة المرور، هل سيحكم القاضي لصالحه؟ مجدداً ستكون الإجابة بالنفي، فما هو السبب؟
- من الواضح أن المشرِّع لو أحال تقدير الأمور للأفراد لتطبيق القانون أو مخالفته، فلن يتحقق من ذلك سوى الفوضى، ونقض الغرض الذي من أجلِه وُضع القانون.
- كل هذا علاوة على الحوادث التي من الممكن جداً أن تقع نتيجة سوء أو الخطأ في التقدير، إذ قد يظن قائد المركبة أنه لا يوجد أحد سيعبر التقاطع في نفس الوقت، والواقع خلاف ذلك، وعندها سيقع الحادث الذي قد يودي بالأرواح والممتلكات.
- هكذا الأمر في التشريعات الإسلامية... لو تُرك الأمر لتقدير الأفراد، ونظرنا إلى الصورة الإجمالية، فلن نشهد سوى الفوضى في تطبيق الناس للأحكام وبما ينقض الغرض من تشريعها.
2- تشير بعض الآيات والأحاديث إلى منافع متحققة من وراء بعض الأوامر أو النواهي، أو مضار متحققة من خلال التمرّد عليها، ولكنها قد لا تكون العلة الكاملة للوجوب أو التحريم.
- ومن هنا، لو انتفت تلك العلة المذكورة في الآية أو الحديث، أو تحققت تلك المنافع بوسيلة أخرى، فهذا لا يعني جواز ترك ذلك الواجب أو فعل ذلك المحرم.
- فلو افترضنا أن صلاح الإنسان في بعض سلوكياته تحقق من دون الصلاة، فهل يجوز لهذا الفرد أن يترك الصلاة؟ الجواب بالنفي... والسبب أن صلاح الفرد في هذه السلوكيات قد لا يكون العلة الكاملة في تشريع الصلاة، وأن هناك عللاً أخرى وراء تشريع الصلاة، ترتبط بالمصالح والمفاسد، وبإصلاح أبعاد أخرى في شخصيته وسلوكياته لم نلحظها... وبترك الصلاة نفقد هذه المصالح، أو تترتب هذه المفاسد. وواحدة من هذه العلل ما سيأتي في الإجابة الثالثة.
3- تحقيق العبودية لله سبحانه - في حدّ ذاته - أمرٌ مطلوب... والعبودية تعني الطاعة التامة للأوامر والنواهي الصادرة عن الخالق عز وجل.
- وهذه في حد ذاتها مصلحة للفرد والمجموع، ومن خلالها تتحقق المنفعة الفردية والعامة.
- فقد يكون الشيء في نفسه طيباً لا ضرر فيه، ولكن المصلحة المتحققة من خلال ترك هذا الشيء والامتناع عنه – تحقيقاً للعبودية - أهمّ وأكثر نفعاً من فعله.
- لاحظ في الآية التالية كيف أن الله سبحانه نهى اليهود عن تناول بعض الأطعمة في نفس الوقت الذي يصفها فيه بأنها طيبة، أي نافعة ومفيدة للإنسان: (فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا، وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ) أي المتمرّدين على الأوامر والنواهي الإلهية (عَذَابًا أَلِيمًا) [النساء:160-161].
- وبالتالي لو افترضنا أننا استطعنا أن نجعل لحم الخنزير طعاماً طيباً، أي مفيداً ونافعاً على المستوى الصحي والغذائي للإنسان، فهل سيتحوّل بذلك إلى طعام حلال؟
- الإجابة حتماً هي النفي...
- والسبب هو أن النهي عن تناول لحم الخنزير مطلق، وغير مقيّد بكونه طيباً أو غير طيب، وقد يكون في جانب منه مرتبطاً بتحقيق العبودية، أو بمنافع ومضار أخرى غير معلومة لنا.
- فالإسلام في حين أنه يدعو إلى الحرية المسئولة، يدعو أيضاً، بل ويقوم على مبدأ مهم جداً، وهو العبودية لله، وهي غاية من الغايات الأصيلة، وفيها مصلحة ومنفعة مهمة يجب أن نأخذها بعين الاعتبار عند الحديث عن ارتباط التشريعات بالمصالح والمفاسد وبالمنافع والمضار.
- إننا كمسلمين نؤمن بأن لا عبثية في تشريعات الله سبحانه وتعالى في أوامره ونواهيه، وأنها تابعة للمصالح والمفاسد، والمنافع والمضار، على المستوى الفردي والعام، وقد تتجاوز الإنسان أحياناً لتشمل ما تشاركه من أصناف الكائنات الحية ومكوّنات البيئة، بل وبما يتجاوز الحياة الدنيا إلى الآخرة. وهذه المصالح والمفاسد والمنافع والمضار قد تكون أحياناً خافيةً علينا، وقد تتضح بعضها ويغيب عنّا بعضُها الآخر، وقد تتمثّل في تحقيق العبودية لله بطاعته في أوامره ونواهيه، كما قد تكون مرتبطةً بتطبيق القانون على كل حال، تجنّباً للفوضى والمضار التي قد تترتّب على التطبيق أو التقدير الخاطيء من قبل الأفراد في الحالات الاستثنائية. من هنا ندرك أن لا مجال لتجاوز أوامر الله ونواهيه بذريعةِ أنّ مخالفتَها الجزئية لا تترتّب عليها مفسدة، أو لا تتخلّف عنها مصلحة، أو بادّعاء أن تحقيق نفس تلك المصالح ممكنٌ بطرق أخرى يبتكرها الإنسان، ولا يعود معها في حاجة إلى الالتزام بتلك الأوامر أو النواهي كإقامة الصلاة.