خطبة الجمعة 18 ربيع الأول 1441: الشيخ علي حسن : الخطبة الثانية: عندما طلق النبي زوجته


- ذكرتُ في الخطبة الأولى أن النبي (ص) واجه من بعض أزواجه حالة من عدم القدرة على الاستمرار في الوضع المعيشي الاستثنائي الخاص ببيت النبوة، ولربما الرغبة – تصريحاً أو تلميحاً - في إنهاء العلاقة الزوجية بينهما... فكيف عالج القرآن والنبي هذه المسألة؟
- جاء الخطاب القرآني الموجّه لأزواج النبي (ص) واضحاً وصريحاً: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ) وذلك بأن تأخذ كل واحدةٍ منكن حقوقها الواجبة بالعقد، مع زيادة على ذلك من نفقةٍ أو عطيّةٍ مقبولةٍ، كما قال تعالى في الآية 241 من سورة البقرة: [وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِٱلْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى ٱلْمُتَّقِينَ] مَن عنده تقوى لا يعبث بهذا الحكم الإلهي (وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلاً) لتأخذن حريتكن في أجواء المودة والرضا والإحسان والمعروف (وَإِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ) وعلى استعداد لإكمال المشوار مع الصبر وحُسن التبعُّل والتضحية وتقديم المصالح العامة على المصلحة الشخصية (فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا) [الأحزاب:28-29].
- هكذا يكون التعامل الراقي والإنساني عندما تصل الأمور بين الزوجين إلى طريق مسدودة: (فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلاً) (وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِٱلْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى ٱلْمُتَّقِينَ) (الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ.... وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِّتَعْتَدُواْ) [البقرة:229-231].
- حيث لا تتحوّل الأوضاع بينهما في أجواء الطلاق أو الانفصال أو الخصومة إلى ما يشبه ساحة حربٍ بين عدوّين لدودين، بحيث تدفع بكلٍّ منهما إلى استخدام أبشع الوسائل لإنزال الهزيمة بالآخر، أو الانتقام منه، أو ابتزازه، أو التشهير به، أو تحويل حياته إلى جحيم مستمر.
- تذكر كتب السيرة أن رسول الله (ص) تزوّج من أميمة -أو أسماء- بنت النعمان الجونية الكندية، وصفت بالجمال، وكانت ذات حسب ونسب، وكندة كانت مملكة، فلما دخل عليها النبي قالت: (وهل تهب الملكة نفسها للسُّوقة؟ قال: فأهوى بيده يضع يده عليها لتسكن، فقالت: أعوذ بالله منك. فقال: قد عُذتِ بمعاذ. ثم خرج علينا فقال: يا أبا أسيد، اكسُها رازقيتين) نوع من الثياب الطويلة المصنوعة من الكتان (وألحقها بأهلها).
- وللأسف، فإن قضايا الطلاق والانفصال والخصومة بين الأزواج في مجتمعاتنا اليوم هي أبعد ما تكون – في الأعم الأغلب – عن مثل هذه الحالة الراقية والإنسانية والحضارية من التعامل الذي يحفظ كرامة طرفي القضية وحقوقهما.
- ومن أعقد وأسوأ الحالات تلك التي يمتنع فيها الزوج عن الطلاق على الرغم من انسداد طريق الاستمرار في الحياة الزوجية بينهما، وبعد كل محاولات الإصلاح، حيث يستغل انحصار سلطة الطلاق به، ويوظّف ذلك في الانتقام من زوجته ويذرها معلقة، لا زوجة ولا مطلقة.
- وإذا أخذنا بعين الاعتبار تعقيدات أوضاع المحاكم في هذا الزمان، وتراكم القضايا، وامتداد التخاصم فيها لسنوات، وتكاليفها المالية المرهقة، وافتقاد القضاة – من الفقهاء العدول - في
محاكمنا ممن يملكون حق طلاق الحاكم، فستكون صورة الوضع المعقد والسيء أكثر وضوحاً.
- وقد اقترحت قبل سنة تقريباً التفكير بجدّية في مسألة توعية الفتاة عند إقدامها على الزواج على أن بإمكانها أن تشترط في عقد الزواج أن تكون وكيلة عن زوجها في أمرِ طلاقها، إما مُطلَقاً، أو في ظرف معيّن، وأنه لو أرجعها في عدّة الطلاق الرجعي استمرّت وكالتها في الطلاق، أو أن تكون الوكالة لأبيها، أو يكون ذلك محدوداً في حالة الطلاق الخُلعي... إلخ.
- ولأن المسألة ذات تعقيدات متعددة الجوانب، ولأنها قضية غير مألوفة، ولأننا لا نملك دليلاً عملياً على أن هذا الإجراء يمثّل حلاً يعالج مشكلة اجتماعية دون سلبيات، بل لربما قد يفاقمها، لذا فقد اقترحت عقد بعض الحلقات النقاشية التي يشترك فيها أولياء الأمور والشباب من الجنسين وبعض علماء الدين ورجال القانون والمختصين في علم الاجتماع وعلم النفس للخروج بتصوّر عملي حولها.. سواء مع أو ضد.
- وقد عرفت قبل شهر تقريباً، من أخي العزيز سماحة الشيخ حسن الصفار، وهو من أعلام القطيف كما لا يخفى، أن هذه المسألة – ومنذ عدة سنوات - صارت دارجة ومعمول بها هناك، وأن مجتمع القطيف تخطّى حالة الاستيحاش من تطبيقها.
- ولربما يكون الانفتاح على تجربتهم في هذا المجال مما يُعين على جلاء الصورة عندنا.
- إننا في ذكرى المولد النبوي الشريف إذ نستحضر في ذاكرتنا وفي خطاباتنا وفي منتدياتنا سيرتَه المباركة، ومعالمَ شخصيتِه العظيمة، فإننا بحاجة إلى أن نحوّل ذلك كلَّه إلى محطّات لتفعيل الصور الإيجابية التي تزخر بها على مستوى التكامل الذاتي والاجتماعي، وأن لا نجعلها حبيسةَ النصوص والنفوس بما لا يتجاوز حدّ التعظيم والتباهي. وسيرتُه الحكيمة في تعامله مع أزواجه، وفي أجواء الخلافات الأسرية، وما جاء حول ذلك من وصايا ومعالجات قرآنية، جديرٌ بأن يتحوّل إلى منهج عملي في إطار التعامل مع الأوضاع المشابهة التي قد نعيشها أو قد تعصف بنا من حيث لا نتوقع ولا نريد.