خطبة الجمعة 18 ربيع الأول 1441: الشيخ علي حسن : الخطبة الأولى: الخلافات الزوجية في البيت النبوي


- لا ريب ولا شك في أن رسول الله (ص) كان صاحب الخلق العظيم، وكان أفضل الناس تعاملاً مع زوجاته وهو القائل مخاطباً الرجال: (خيرُكم خيرُكم لأهله) أي أن تكامل الصورة الإيمانية والأخلاقية والاجتماعية للرجل لا تتحقق إلا من خلال حُسن تعامله مع زوجته وأبنائه، وكلما ارتقى في ذلك ارتقى في صورته الإجمالية إيجاباً، ثم قال (ص): (وأنا خيرُكم لأهلي).
- ومع هذا، فإن القرآن الكريم تحدّث عن وقوع خلافات داخل البيت النبوي، بينه وبين بعض أزواجه، وبالمستوى الذي تطلّب أحياناً تدخّلاً إلهياً لصالح النبي، من أجل سرعة إنهاء المسألة، حفاظاً على سمعة هذا البيت ومكانته.
- واحدة من هذه المشاهد ما جاء في سورة التحريم: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ... إِن تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِن تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ، عَسَى رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِّنكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُّؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا) [التحريم:1-5].
- وحدوث مثل هذه الخلافات في الوقت الذي كان فيه رسول الله (ص) خيرَ الناس إلى أهله إنما يعود للطرف الآخر من المشكلة الذي قد يصدر عنه ما يسبب بعض الأجواء المشحونة التي تؤدّي إلى مثل ذلك، في الوقت الذي كان يسعى فيه النبي أن يعالج الأمور بحكمة، ولو بالتخلّي والتنازل عن حقٍّ من حقوقه، أو عن أمر متاحٍ له، كما هو واضح في الآيات السابقة.
- ثم إن للبيت النبوي وضعاً استثنائياً محاطاً ببعض الأحكام والتدابير المشدَّدة رعايةً لسمعته وخصوصيته، وذلك من قبيل ما جاء في آيات من سورة الأحزاب: (يَا نِسَاء النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاء...) (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى) (وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاء حِجَاب). وقد ذكرتُ مِن قبل أن الحجاب هنا لا يعني اللباس، بل الحاجز.
- هذا مضافاً إلى زهد النبي ذاتاً، بالإضافة إلى خصوصية موقعه كقائد، بما يحمّله مسئولية أن يواسي أشد الناس فقراً وحاجة، والتخلّي عن أي مظهر من مظاهر الإقبال على الدنيا.
- وقد روي عن بعض أمهات المؤمنين: (ما شبع آلُ محمد (ص) منذ قَدِم المدينة مِن طعام البُرِّ ثلاثَ ليالٍ تباعاً حتى قُبض). وفي رواية أخرى: (إن كنَّا آلَ محمد (ص) لَنمكثُ شهراً ما نستوقد بنار، إنْ هو إلا التمر والماء).
- وبين أيدينا مشهد آخر، فعن زرارة، عن أبي جعفر الباقر (ع) قال: (كان رسول الله (ص) إذا أراد السفر سلّم على من أراد التسليم عليه من أهله، ثم يكون آخر من يسلم عليه فاطمة (ع)، فيكون توجهه إلى سفره من بيتها، وإذا رجع بدأ بها، فسافر مرة وقد أصاب عليٌ (ع) شيئاً من الغنيمة، فدفعه إلى فاطمة، ثم خرج، فأخذت سوارين من فضة وعلّقت على بابها ستراً، فلما قدم رسول الله (ص) دخل المسجد، فتوجه نحو بيت فاطمة (ع) كما كان يصنع، فقامت فرحة إلى أبيها صبابةً وشوقاً إليه، فنظر (ص) فإذا في يدها سواران من فضة، وإذا على بابها ستر، فقعد رسول الله (ص) حيث ينظر إليها، فبكت فاطمة وحزنت وقالت: ما صنع هذا أبي قبلها، فدعت ابنيها ونزعت الستر من بابها وخلعت السوارين من يدها، ثم دفعت السوارين إلى أحدهما والستر إلى الآخر، ثم قالت لهما: انطلقا إلى أبي فأقرئاه السلام وقولا له: ما أحدثنا بعدك غير هذا، فما شأنك به؟ فجاءاه فأبلغاه ذلك عن أمهما، فقبّلهما رسول الله (ص) والتزمهما، وأقعد كلَّ واحد منهما على فخِذه، ثم أمر بذينك السوارين فكُسرا، فجعلهما قطعاً قطعاً، ثم دعا أهلَ الصُّفَّة، قوم من المهاجرين لم يكن لهم منازل ولا أموال، فقسمه بينهم قطعاً، ثم جعل يدعو الرجل منهم العاري الذي لا يستتر بشيء. وكان ذلك الستر طويلاً وليس له عرض، فجعل يؤزر الرجل فإذا التقا عليه قطَعَه، حتى قسمه بينهم أُزراً... ثم قال رسول الله (ص): رحم الله فاطمة، ليكسونها الله بهذا الستر من كسوة الجنة، وليحلينّها بهذين السوارين مِن حِلية الجنة).
- لا شك أن هذا الوضع المشتمل على القيود الإضافية، وجشوبة العيش بذلك المستوى، أمرٌ صعب لا يتحمّله كلُّ أحد، وهو ما قد يدفع بالأمور أن تصل – ببعض أزواج النبي – إلى طريق مسدودة، عند الشعور بعدم القدرة على الاستمرار، والتفكير – ولربما التصريح – بذلك.
- فكيف كان تعامل النبي (ص) في مثل هذا الظرف؟ وماذا قدّم له القرآن الكريم ولنا من توجيهات تهدف إلى التعامل الإنساني الراقي والحكيم الذي تُحفَظ من خلاله كرامة الطرفين وحقوقهما؟
- سيكون حديثي في الخطبة الثانية بإذن الله محاولة لاستيضاح ذلك.