خطبة الجمعة 11 ربيع الأول 1441: الشيخ علي حسن : الخطبة الثانية: تصحيح مفهوم الذكر

- توقفت في الخطبة الأولى عند محاولة استيضاح مصطلح (ذِكر الله) في الاستعمال القرآني، فلنلاحظ الآيات التالية لنرفع شيئاً من الغموض عن المراد من ذلك:
- (إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ) [المائدة:91].. فالصلاة عنوان، و(ذِكر الله) عنوان آخر.
- ويتكرر نفس الأمر في قوله تعالى: (رِجَالٌ لّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ) [النور:37].
- الآية 19 من المجادلة تتحدث عن المنافقين، ولربما عن فئة من ضعاف الإيمان الذين أضاعوا البوصلة، فاتّخذوا من بعض أعداء الله أولياء:(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِم مَّا هُم مِّنكُمْ وَلا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ.. اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ).
- فعن أيِّ ذِكر تتحدث الآية؟ هل تقصد أنهم تركوا صلاتَهم مثلاً؟ لا أبداً، فقد كان المنافقون – وكذلك ضعاف الإيمان – حريصين على أن يَظهر التزامهم بالعبادات الإسلامية.
- بل إن المنافقين بنوا مسجداً خاصاً بهم: (وَالَّذِينَ اتَّخَذُواْ مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِّمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ الْحُسْنَى) [التوبة:107].
- وحتى بالنسبة إلى صلاة الجمعة، لم تقل الآية: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى) الصلاة، بل قالت: (ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ).
- فميزة هذه العبادة أنها لا تقتصر على الصلاة بل على الخطبتين اللتين تذكّران الناس بالله.
- إذا أردنا أن نعرف معنى (ذِكر الله) فعلينا أن نسترجع قولُه سبحانه: (وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ وَلاَ تَكُن مِّنَ الْغَافِلِينَ) [الأعراف:205].
- فالذِّكر بالقول، والمعروف بعنوان (الذِّكر اللِّساني) وسيلة مِن وسائل ذِكر الله، والذي يجب أن يكون في إطار التضرع والخوف، أما (ذِكر الله) فهو ما يقابل (الغفلة) (وَلاَ تَكُن مِّنَ الْغَافِلِينَ).
- وهذا ما صرّح به الإمام الصادق (ع) بوضوح حيث قال: (مِن أشدّ ما فرض الله تعالى على خلقه ذِكرُ الله كثيراً، ثم قال (ع)) مصححاً المفهوم الدارج لدى الناس حول ذكر الله (أمَا لا أعني سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر - وإن كان منه - ولكن ذكر الله تعالى عند ما أحلّ وحرّم، فإن كان طاعة عمل بها، وإن كان معصية تركها).
- من هنا نقول أنَّ (ذِكر الله) بحسب المصطلح القرآني يعني أن تستحضر الرقابة الإلهية دائماً.. أن لا تغفل عن حقيقة أن الله حاضر حيثما كنت.. وأنه سيحاسبك، وأن هذا الحساب سيترتب عليه أثرٌ في الآخرة.. فكيف سيكون سلوكُك؟
- (ذِكرُ الله) بهذا المفهوم أكبر وأهم وأعظم من الصلاة، والصلاة وسيلة وأداة لتحقيق هذا الذِّكر، ومن لا يصلي لا يحقق هذا الذِّكر، ومن يصلّي ويغفل عن الله، ولا يراقب الله في نفسه وأموره لم يحقِّق هذا الذِّكر، وبالتالي فإنَّ حالَه حال مَن لا يصلّي، لأن الغاية في الحالتين لم تتحقق.
- وهذا يفسِّر لنا كيف يمكن أن يكون ممّن يؤم المساجد ليل نهار: مَن يأكل أموالَ الناس بالباطل، ويظلم أقرب الناس إليه، ويكون من الفاسدين، ويتعاون على الإثم والعدوان، ولا يتناهى عن منكر.. إلخ القائمة.
- أكرر مرة أخرى – كما ذكرت في الخطبة الأولى – أن ما سبق لا يعني التشجيع على ترك الصلاة ما دام الإنسان لا يُحقق (ذِكرَ الله) من خلالها، بل يعني ضرورة أن نطوّر من صلاتنا لتُحقِّق هذه النتيجة، وأن نراقب صلاتَنا ونقيِّمها من خلال مقدارِ إحساسِنا بالرقابة الإلهية، ومن خلالِ سلوكياتِنا، فكلّما ازداد إحساسُنا بهذه الرقابة وانعكس ذلك على سلوكياتِنا، كلما تأكّدنا أننا نسير في الاتجاه الصحيح، وأننا نذكر الله.. وكلما تضاءل ذلك حتى يتلاشى، وكانت أفكارُنا على خلاف ما يريد الله، وسلوكياتُنا الاجتماعية على خلاف ما يريد الله، وأخلاقُنا على خلاف ما يريد الله، ومواقفُنا على خلاف ما يريد الله، أدركنا أننا من الغافلين، وأننا قد أضعنا البوصلة الإلهية.