خطبة الجمعة 4 ربيع الأول 1441: الشيخ علي حسن : الخطبة الثانية: الشريعة أم الحكمة؟

- الكلام الذي سأطرحه مهم ومرتبط بحياتنا الاجتماعية من قريب، ولربما يمس أوضاعنا اليومية، وقد تناولته أكثر من مرة ضمن موضوعات مختلفة، ولكن لأهميته، وبلحاظ الأسئلة الموجَّهة إليّ مكرراً يتبيّن لي أن الناس لم يستوعبوا الموضوع إلى الآن وهو ما يستدعي طرحه.
1- في القضايا ذات البُعد الاجتماعي، وخصوصاً قضايا الزواج والطلاق، وما يتعلّق بهما من مسائل الحضانة والإنفاق وغيرهما، قد يجيز ويبيح الشرع أمراً ما، ولكن الإباحة لا تعني الإلزام، وليس كل مُباح يُفعَل.. بل لابد من تغليب الحكمة والمصلحة في القرار المتخَذ.
- يُسأل أحد الأئمة (ع) عن حرمة شيء فيقول: (حلال، إلا أنّا أهلَ البيت نعافُه).
- ولذا لو استفتَى أحد طرفي الخصومة، وجاء الجواب بالجواز، فلن يكون هذا كافياً لاتخاذ القرار، أو للتمسك به كذريعة للموقف الذي يتخذه السائل، بل لابد من الأخذ بعين الاعتبار مثلاً البُعد الاجتماعي والآثار السلبية التي قد تترتّب على هذا الاختيار.
- مثلاً، من الضروري التفكير في:
أ‌. أثر القرار المتخذ على الأطفال.. على الجانب النفسي والتربوي والتعليمي. مثلاً، يجوز للزوج أن يرفع قضية متعلقة بالحضانة ويكسبها، ولكنه في نفس الوقت يجد أن أطفاله مستقرّين نفسياً بشكل كبير مع والدتهم، وأنها قادرة على رعايتهم بنسبة مقبولة، وفي المقابل لن يستطيع هو أن يوفّر لهم الجو المناسب بسبب ظروف عمله وكثرة غيابه عن البيت وما إلى ذلك.. فهل تكون تلك الإباحة مسوِّغاً له لكي يطالِب بالحضانة؟
ب. أثر القرار على سمعة الأسرة، أو السمعة الشخصية لصاحب المشكلة، لكونه شخصية عامة مثلاً.. فالمجتمع لا يرحم، والناس يحبون تداول القضايا المثيرة، ولا يمنعهم عن ذلك مكانة الشخصية التي يرتبط بها الخبر. وخير شاهد على ذلك ما ذكرَته آيات قصة الإفك والتي بحسب كثير من المفسرين تخص شخص النبي (ص) وسمعته: (إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ
وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُم مَّا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ) [النور:15].
ج. أثر القرار على مستقبل الفرد، فقد يقلب تنفيذ هذا القرار حياة صاحب القضية رأساً على عقب، فيقضي سنوات وسنوات من عمره في المحاكم، وإنفاق أموال طائلة بما يُرهقه اقتصادياً، فلربما يكون التصالح الودّي والتنازل في البين عن بعض الحقوق أفضل من ذلك.
د. هل الوضع القادم أفضل من الوضع القائم؟ إخوة يختلفون على مبلغ من الإرث، والمبلغ ليس بذي اعتبار كبير، ويستطيع الإنسان أن يتجاوز عنه في مقابل أن لا يخلق صراعاً ممتداً وخصومة طويلة الأمد مع إخوانه.. فهل جواز استرداد حقّه أولى أم تجاوز الخصومة؟
هـ. مراعاة أيِّ المواقف أحب إلى الله؟ فمن المفترض أنّي إنسان مؤمن، وأحبّ أن يكون الله راضياً عني دائماً، وأسعى أن أنال مغفرته وعفوه في الآخرة، وهذا قد يتطلب منّي أن أغفر لخصمي، وأعفو عنه في الدنيا.
و. هل يتناسب هذا الموقف مع الأخلاق والقِيَم التي أتبنّاها؟ الانتقام، الصراع.... إلخ.
- ولذا لا تتوقف عند حد معرفة الجواب الشرعي، ولا تقل عندي فتوى بجواز ذلك، بل طالب العلماء وأهلَ الاختصاص بالجانب الآخر من الموضوع، وهو الداخل تحت عنوان (الحكمة)، ثم انظر في أمرك، وماذا تختار.
- لاحظ كيف أن الآية الكريمة التالية وهي تعالج قضية اجتماعية لا تكتفي بالبُعد الشرعي من المسألة، بل وتأكد على ضرورة التحلّي بالحكمة أيضاً:
- (وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِّتَعْتَدُواْ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ) إذ يجوز للزوج حال العدة الرجعية أن يعيد مطلقته إلى حالة الزوجية بكلمة واحدة، ولكن هل الحكمة تقتضي ذلك في ما لو لم يرغب هو حقيقةً في إرجاعها وكان الأمر بالنسبة إليه مجرد انتقام؟ (وَلاَ تَتَّخِذُواْ آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا) بأن تحوِّلوا الأحكام الشرعية إلى أدوات توظّفونها بما لا يُرضي الله وتتعاملون معها وكأنها ألعوبة بأيديكم (وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِّنَ الْكِتَابِ) التشريعات (وَالْحِكْمَةِ) فهذه التشريعات ليست مسائل تجريدية بل واقع عملي يمس حياة الإنسان والآخرين المرتبطين به وبشكل كبير (يَعِظُكُم بِهِ وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) [البقرة:231].
2- أحياناً يدفع الحكم الشرعي باتجاه الإلزام.. ف عندما يبلغ الطفل 7 سنوات – مثلاً - فإن حضانته تكون للأب.. هذا حكم شرعي إلزامي، ولكن يجب أن نلتفت إلى أن الأحكام الشرعية الإلزامية في القضايا ذات البُعد الاجتماعي تكون – أحياناً - لبيان الحد الأدنى للحالة المطلوب تحقيقها عند التخاصم، وليست من باب الإلزام ابتداءً.
- أي أن الشرع الإسلامي يدفع باتجاه تحقيق توافق تصالحي على الترتيبات المتعلقة بحضانة الأطفال وفق مصلحة كل الأطراف، وهذا التوافق التصالحي قد يُبقي حضانة الأطفال للأم، وقد
يقسّمها - بطريقةٍ ما - بين الأبوين، وقد تنتقل بشكل كامل إلى الأب.. المهم أن نقدِّم الحكمة على رغباتنا وأهوائنا الشخصية، ولا نحوّل المسألة الشرعية إلى أداة للانتقام.
- ومثل مسألة الحضانة، المسائل المالية، والمسكن، والإرجاع، وعوض الخُلع وغير ذلك.
- قال تعالى: (وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الأَنفُسُ الشُّحَّ وَإِن تُحْسِنُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا) [النساء:128].
- إن من المؤسف أن نشهد - في حالات التخاصم في القضايا الاجتماعية - نوعاً من السعي لاستغلال الأحكام الشرعية لتحقيق مصالحَ ضيّقة، أو لشفاء غيظ، أو انتقاماً للنفس، أو لتوجيه ضربةٍ موجِعةٍ إلى الطرف الآخر المتخاصم معه، بينما لم تُشرَّع هذه الأحكام لتحقيق المصلحة الفردية، بل وُضِعَت بجانب الحكمة ومراعاة مصالح الآخرين كي يحدّدَ الفردُ مِن خلالها ما هو القرار الأنسب في مثل هذا الموقف، تخفيفاً على نفسه وعلى الآخرين تبعات العُقد المحتمَل تشكّلها نتيجة الخصومات والنزاعات، وسدّاً للباب الذي قد تقتحم عليه من خلاله الكثير من السلبيات الكفيلة بإرباك حياته، ولنجعل من قوله تعالى: (وَلاَ تَتَّخِذُواْ آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِّنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُم بِهِ وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) الأساسَ في مواقفِنا وقراراتِنا وردودِ أفعالِنا.