خطبة الجمعة 26 من صفر 1441: الشيخ علي حسن : الخطبة الثانية: سيّد المتعقّلين

- في الكافي عن رسول الله (ص) أنه قال: (مَا قَسَمَ اللهُ لِلْعِبَادِ شَيْئاً أَفْضَلَ مِنَ الْعَقْلِ ؛ فَنَوْمُ الْعَاقِلِ أَفْضَلُ مِنْ سَهَرِ الْجَاهِلِ، وَإِقَامَةُ الْعَاقِلِ أَفْضَلُ مِنْ شُخُوصِ الْجَاهِلِ) أي خروجه من بلده لغايةٍ نبيلة مع ما في هذا السفر من تعب وغُربة وإنفاق للمال واحتمالات التعرض للخطر (وَلَا بَعَثَ الله نَبِيّاً وَلَا رَسُولاً حَتّى يَسْتَكْمِلَ) هذا النبي أو الرسول (الْعَقْلَ، وَيَكُونَ عَقْلُهُ أَفْضَلَ مِنْ عُقُولِ جَمِيعِ أُمَّتِهِ، وَمَا يُضْمِرُ النَّبِيُّ فِي نَفْسِهِ أَفْضَلُ مِنِ اجْتِهَادِ الْمُجْتَهِدِينَ، وَمَا أَدَّى الْعَبْدُ فَرَائِضَ اللهِ حَتّى عَقَلَ عَنْهُ، وَلا بَلَغَ جَمِيعُ الْعَابِدِينَ فِي فَضْلِ عِبَادَتِهِمْ مَا بَلَغَ الْعَاقِلُ، وَالْعُقَلاءُ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ الَّذِينَ قَالَ اللهُ تَعَالى: [إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ]).
- وفي البحار عنه (ص) أنه قال: (إنَّما يُدْرَكُ الخَيرُ كُلُّهُ بِالعَقْلِ، وَلَا دِينَ لِمَنْ لَا عَقْلَ لَهُ).
- مضمون هذه الكلمات يمثّل واحدةً من أهم معالم الرسالة الإسلامية، حيث سعى النبي (ص) إلى أن يجعل للعقل والعقلانية مكانةً بارزةً في حياةِ مَن آمن برسالته.
- والقرآن الكريم - بكل آياته التي حضّت على التعقّل والتدبّر والتفكير، والتحرر من أسر التقليد الأعمى، والاعتماد على الدليل أو الحُجّة، لا الظن والوهم - كان خيرَ معين له في ترسيخ ذلك.
- ويكفينا هذا المشهد الذي يصوّره القرآن في تقديم الأب أو الأم أحدَ الأبناءِ قرباناً للآلهة دفعاً للضرر أو جلباً للمنفعة: (وَكَذَٰلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ) [الأنعام:137].
- وأيةُ قساوة في القلب هذه التي تدفع الأبوين إلى قتل الأبناء تخوّفاً من عدم القدرة على إطعامهم في يومٍ ما: (وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ) [الإسراء:31].
- أو تخلّصاً من الإناث من المواليد خوفاً من مجرد احتمال لحوق العار بهم: (وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ، بِأَيِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ) [التكوير:8-9].
- هذا مجرد مثال واحد على إلغاء العقل - فضلاً عن إلغاء العاطفة والفطرة الإنسانية – وإلا فالأمثلة على اللاعقلانية في العصر الجاهلي في ما له علاقة بالنظرة إلى كيفية الخلق، وإدارة
الوجود، ومعالجة الأمراض، ومواجهة القضايا الاجتماعية، وغير ذلك، فكثيرة جداً.
- وما سيطرة الخرافات وشدة الإيمان بالأساطير إلا مؤشر آخر على غياب العقل في الجاهلية.
- لاحظ في الخبر التالي كيف يمكن للمعتقدات الباطلة وتغييب العقل أن يخلق للإنسان تعقيدات هو في غِنىً عنها، وتجعله عدوّاً لنفسه، وسبباً لهلاكه وهلاك الآخرين.
- قبل أيام عَنْونَت البي بي سي - عربي مقالاً لها بالتالي: (كيف تقف المعتقدات البوذية عائقاً أمام مكافحة الملاريا؟)، جاء في هذا المقال: (ثمة تحديات تحول دون القضاء على الملاريا في [بوتان]، أبرزها كراهية البوذيين لقتل أي شكل من أشكال الحياة، حتى لو كانت بعوضة ناقلة للمرض... يقول [رينزين نامغاي] أول عالم حشرات في بوتان، إنه كان يُطمئن أصحاب المنازل بالقول: "إننا نرش المنازل فقط، فإذا أرادت البعوضة أن تنتحر بالدخول إلى المنزل، فلا تمنعوها". وأحياناً كان عمال رش المبيدات يقتحمون المنازل لرشها بمرافقة رجال الشرطة).
- حارب النبي (ص) هذا النوع من تغييب العقل عند التعامل مع القضايا المتعلقة بمتغيّرات الطبيعة وعِلَلها، وقد جاءه بعض الأعراب برؤية يغيب فيها العقل فقالوا: (يا رسول الله أنتداوى؟ فقال: نعم يا عباد الله، تَداوَوا، فإنّ الله عز وجل لم يَضَع داءً إلا وَضعَ لَه شِفاءً.....).
- وعن هلال بن يساف قال: (دخل رسول الله(ص) على مريض يعودُه فقال: أرسِلوا إلى الطبيب، فقال له قائل: وأنت تقول ذلك يا رسول الله؟) وكأنّ ارتباطَ النبي بالغيب، ومقامَه الرفيع عند الله، وإيمانَه بالقضاء والقدر، واستجابةَ دعائه، كلُّ ذلك يستدعي منه عدم اللجوء إلى معالجة الأسباب الطبيعية، بل اللجوء إلى الرُّقية مثلاً، أو الاكتفاء بالدعاء، فجاء الجواب صادماً: (قال: نعم).
- بهذا نجح النبي (ص) أن يُحدِث نقلة نوعية لدى العربي الجاهلي البعيد عن العقلانية، وأن يفتح له من خلال ذلك آفاقَ العلم والفِكر والحضارةِ المادية والمعنوية.
- ولكن ظهرت بعد ذلك حركةُ رِدَّةٍ حضارية تدفع نحو العودة إلى تغييب العقل من جديد.
- هذه الحركة جاءت بثوب إسلامي وشرعي، اعتماداً على روايات ضعيفة، أو على تفسيرات خاطئة أو ساذجة للنصوص، يُغيَّب فيها العقل عند التحليل والتفسير، حتى صار المؤمنُ بهذه الرِدَّة الحضارية يندفع إلى الاستفتاء من أجل أن يعرف هل يجوز التداوي بالدواء أم لا!
- والطريف أن هذا السائل من أهل الاختصاص في مجاله، فالسؤال المثبَت على إحدى المواقع الدينية الإلكترونية جاء كالتالي: ((م. ب) من جامعة البترول والمعادن بالظهران يسأل فيها عن أمرين: في الأول يقول: مسألة التداوي؛ فإن بعض أهل العلم قال ما محصلته: أنه لا يجب التداوي من مرض ولو ظن نفعُه، وتركُه أفضل، روي عن الإمام أحمد؛ لأنه أقرب للتوكل.....)!
- ومثل ذلك من يَستفتي عن حكم ربط حزام الأمان مثلاً، بلحاظ احتمال منعه للقضاء والقدر، وعن رضاع الكبير بحكم وجود روايات بهذا الخصوص، وعن القول بكروية الأرض بحكم وجود نصوص يُفهَم منها خلاف ذلك، وعن حكم إهداء الزهور، والذي جاء الجواب عنه كالتالي:
(لا يجوز إهداء الزهور للمرضى ولا لغيرهم في المناسبات أو غير المناسبات) والسبب:
1. فيها تشبّه بالكفار 2. مضيعة للمال بغير فائدة 3. فيها قطع للورود الحية وإماتتها بغير منفعة.
- لقد عمل رسولُ الله (ص) على أن يعيشَ المؤمنون برسالةِ الإسلامِ الحياةَ على أساس العقل، وأن يرتفعوا بها على أساس العلم، وأن ينطلقوا ليُغنوا الحياة من خلال ذلك، لأن الله عزوجل لا يَقبل أن يأخذ النّاسُ بأسباب الخرافة والتخلّف في ما يعتقدونه أو يقومون به، بل لا بدّ من أن ينطلق المؤمن في عقيدته وفي عمله على أساس العلم والعقل، لا الجهل والوهم. ومن هنا، كان من الضروري أن يُعيد الفقهاء والمفكرون الإسلاميون – من حين إلى آخر - قراءةَ مناهجِهم في الاستنباط الفكري والفقهي، والنتائجِ النظرية المتحققة من خلاله على مستوى الفكرة والفتوى، وانعكاساتِ ذلك كلِّه على الصعيد العملي، إذ لا قداسةَ للاجتهاد، ولا ثبات للظروف والنتائج.