خطبة الجمعة 19 من صفر 1441: الشيخ علي حسن : الخطبة الثانية: الشهيد البطل أم الشهيد المظلوم؟


- لمسألة الشهادة دور في بِناء وتشكيل العقل والوجدان الإسلامي على مرّ تاريخه.
- وفي سنة 2000م صدر كتاب بعنوان (الإمام الشهيد في التاريخ والأيديولوجيا.. شهيدُ الشيعة مقابل بطلِ السنّة) للدكتورة (سلوى العمَد)، وهو في الأصل رسالة ماجستير صدرت عام 1987.
- عمد الكتاب لدراسة مفهوم الشهيد - وبصورة مقارنة - عند أهل السنة والشيعة، وذلك من خلال دراسةِ صورةِ رمز واحد هو الحسين (ع)، باعتباره الرمز الأشهر والأكثر تجسيداً لمفهوم الشهيد.
- ومن ضمن القضايا التي بُحثت في الكتاب، مسألة التمايز الذي لاحظته الكاتبة بين أهل السنة والشيعة –خلال الحرب الأهلية في لبنان- فيما له علاقة بالوصف المضاف إلى عنوان (الشهيد).
- فعندما يتم الإعلان - من خلال الملصقات المعلقة في الشوارع - عن (شهيد) في الوسط الشيعي، فإن العنوان الغالب هو (الشهيد المظلوم).. بينما يتصدر عنوان (الشهيد البطل) غالبية ملصقات التنظيمات السنية!
- ثم قامت بمحاولة تحليل لهذا الاختلاف من خلال قراءة فكرية وتاريخية واجتماعية ونفسية.
- قالت أنه انطلاقاً من أن الحُكم إجمالاً – عبر التاريخ – كان بيد أهل السنة، لذا فإن الشخصية الرمز عندهم غالباً ما تكون هي رجل الدولة القوي، أو قائد الجيش بطل الفتوحات.
- ومن هنا نجد الحديث عن الشخصية الرمز عند أهل السنة هو حديث عن بعض الخلفاء، وعن طارق بن زياد، وصلاح الدين الأيوبي، والظاهر بيبرس، إلخ.
- واعتبرت الكاتبة أن نفس هذا الأمر انسحب على مفهوم أهل السنة للشهيد – بمن فيهم الإمام الحسين - باعتباره بطلاً سقط في الطريق نحو الهدف المرجوّ تحقيقه من خلال بطولته هذه.
- وفي المقابل، فقد عاش الشيعة – في الغالب الأعم من التاريخ الإسلامي – في إطار المعارضة للدولة المركزية، وتعرّضوا في بعض مراحله إلى الاضطهاد والملاحقة والتنكيل والتهجير والقتل.
- ومن جهة أخرى، فإن الشيعة ينظرون إلى الإمام الحسين (ع) نظرة مقدّسة مرتبطة بالعقيدة، لا بعنوان أنه حاكم كسائر الحكام، ولا كقائد جيش، أو زعيم ثورة.. إنه إمام اختاره الله لهذا المقام.
- هذا الإمام – وبصورة وحشية قلّ نظيرها - تعرّض للقتل والتمثيل بجسده، ونال الشهادة، وذلك عندما اتخذ موقف المعارضة لسلطة يزيد، وخرج عليه ثائراً.
- من هنا، فقد ركّز الشيعة – في تناولهم لواقعة الطف - على الشق المأساوي منها، فصارت صورة الإمام الحسين (ع) عند الشيعة الإمامية، هي صورة الإمام الشهيد المظلوم.
- أي أن الشخصية الرمز عند الشيعة – في الأعم الأغلب - هي شخصية المعارض أو الثائر الذي يتعرّض للظلم، فالقتل والشهادة.
- هذه الصورة بذاتها ألقت بظلالها على نظرة الشيعة إلى شهدائهم، فصار يُعبَّر عن الواحد منهم بعنوان (الشهيد المظلوم).. في مقابل عنوان (الشهيد البطل).
- هذه القراءة التحليلية من قبل هذه الكاتبة تستحق – من جهة - التوقف عندها والتفكير في مدى مصداقيتها، ومن جهة أخرى في مدى حاجتنا إلى تغيير هذا الواقع.. فقد يقرّ البعض بصحة هذه القراءة ويرى ضرورة استمرارها وجدوائيتها.
- ولو قمنا بالبحث عن عنوان (الشهيد المظلوم) في الإنترنت، ثم عن عنوان (الشهيد البطل)، فسنجد أن النتائج ستشير إلى مصداقية كبيرة في الملاحظة التي ذكرتها الكاتبة، لا على مستوى لبنان فحسب – وهي البيئة التي انطلقت من خلالها الباحثة - بل في الدائرة الأوسع.
- بل إننا لو راجعنا إلى بعض نصوص الرثاء الحسيني، والمصطلحات المستعملة في خطابنا الشيعي فسنجد فيها التركيز على البُعد المأساوي للقضية بصورة تفوق البُعد البطولي منها.
- يقول الشاعر الشعبي في وصف أنصار الحسين، وكأنهم ماتوا في حادث مروري: (نمتوا على الغبره حسافه آيا فرسان)! أيُعقَل أن نتحسّر على شهادة مَن نصروا الدينَ والحقَّ وإمامَ زمانهم؟
- وهكذا فعل شاعر آخر وعلى لسان العقيلة زينب (رض) وبحق علي الأكبر (رض): (وصِرْخَت: حسافه اتروح يا شمعة الشبان).
- هذا منطق الشاعر في مقابل المنطق الحقيق للعقيلة حيث قال لها ابن زياد متغطرساً: (كَيْفَ رَأَيْتِ صُنْعَ اللَّهِ بِأَخِيكِ وَأَهْلِ بَيْتِكِ؟ فَقَالَتْ: مَا رَأَيْتُ إِلَّا جَمِيلًا، هَؤُلَاءِ قَوْمٌ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْقَتْلَ فَبَرَزُوا إِلَى مَضَاجِعِهِمْ، وَسَيَجْمَعُ اللَّهُ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُمْ فَتُحَاجُّ وَتُخَاصَمُ، فَانْظُرْ لِمَنِ الْفَلْجُ يَوْمَئِذٍ).
- فعلاً، فإن طريقة عرضنا لشخصية العقيلة زينب لا تبتعد عن التركيز على البُعد المأساوي.
- المظلومة.. المقهورة.. المسبية.. الباكية.. الوحيدة.. الغريبة.. كعبة الرزايا.. كعبة الأحزان.. أم المصائب.. ألقاب عُرفت بها العقيلة زينب، وتتصدّر قصائدَنا وخطابَنا الحسيني، وهي تُقدِّم صورة رمزية حقيقية عن البُعد المأساوي من سيرتها، وما لاقته من طغاة زمانها، ولكنها لا تمثّل كلَّ حقيقةِ ابنةِ علي (ع)، وكلَّ مواقفِها الخالدة.
- فالصور البطولية المنقولة لنا من مواقفها – ولا سيما فيما بعد استشهاد الإمام الحسين وأهل بيته وأنصاره - تفوق الصور المأساوية.
- ومن بين هذه الصور ما نقله السيد ابن طاوس في كتابه (اللهوف في قتلى الطفوف) من موقف العقلة زينب أمام طغيان يزيد وفي مجلسه، فقالت: (... أظننت يا يزيد - حيث أخذت علينا أقطار الأرض وآفاق السماء فأصبحنا نساق كما تساق الإماء - أنّ بنا على الله هواناً، وبك عليه كرامة، وأن ذلك لعظيم خطرك عنده؟ فشمُخت بأنفك ونظرت في عطفك، جَذِلاً مسروراً، حين رأيت الدنيا لك مستوسقة، والأمور متسقة، وحين صفا لك ملكُنا وسلطانُنا، فمهلاً مهلاً، أنسيت قول الله عزوجل: [وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِّأَنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمًا وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِين]؟ أ مِن العدل يا بن الطلقاء تخديرُك إماءك ونساءك، وسوقُك بناتِ رسول الله سبايا؟‍‍ قد هتكت ستورهن وأبديت وجوههن، تحدو بهن الأعداء من بلد إلى بلد، ويستشرفهن أهلُ المنازل والمناهل، ويتصفح وجوهَهن القريبُ والبعيد، والدنيُّ والشريف.. وكيف تُرتَجى مراقبةُ مَن لفظ فوهُ أكبادَ الأزكياء، ونبت لحمُه بدماء الشهداء؟!... فلترِدَنّ وشيكاً موردَهم، ولتودَنّ أنك شَللت وبَكمتَ ولم تكن قلت ما قلت، وفعلت ما فعلت... فوالله ما فريت إلا جلدَك، ولا حززت إلا لحمَك، ولتردنّ على رسول الله (ص) بما تحمّلتَ مِن سفك دماء ذريتِه، وانتهكتَ مِن حُرمته في عترته ولُحمتِه... ولئن جرّت عليّ الدواهي مخاطبتَك، إني لأستصغر قدرك، وأستعظم تقريعك، واستكثر توبيخك)... أية عظمةٍ هذه وأية بطولة؟
- إن غلبةَ فكرةِ المظلومية في قبال فكرة البطولة - في اللا وعي - جعلنا نفقد أحياناً النظرةَ المتزنة لفكرة الشهيد والشهادة، وعلى تطبيقها من خلال شخصيتي الإمام الحسين والعقيلة زينب (ع)، لأنّ عناصرَ الشجاعةِ والصبرِ والقوةِ والبصيرةِ والبطولةِ حاضرةٌ بكل وضوح في سيرتهما العاشورائية، ومن مسئوليتنا أن نعيد التوازن إلى خطابنا من خلال تقديم الصورة الكاملة والحقيقية لأبطال كربلاء، وهي الصورة الزاخرة بعناصر القوة والإرادة الصُّلبة، دون إلغاءٍ للبُعد العاطفي في إطاره الإنساني المتناغم مع الفطرة.