خطبة الجمعة 5 من صفر 1441: الشيخ علي حسن : الخطبة الثانية: هل أخطأ الإمام الحسن؟ القسم الثاني

- في الخطبة الشقشقية قدّم أمير المؤمنين (ع) قاعدةً في كيفية التعامل في مثل الظرف الذي عايشه الإمام الحسن (ع) حيث واجه عدة أمور، من بينها: خيانة العديد من قادة جيشه، تمرُّد الجيش عليه، محاولة اغتياله أو تسليمه غدراً لمعاوية، تعريض المخلصين من أصحابه – وهم أقلية – للقتل دون مردود إيجابي، وبالتالي التسبب في القضاء على الخط الموالي لأهل البيت.
- ومن كلماته في بيان سبب اختياره الصلح:
1. (لستُ مُذِلاًّ للمؤمنين، ولكني مُعِزُّهم، ما أردتُ بِمُصَالَحَتي إلاَّ أن أدفع عنكم القتل، عندما رأيت تَباطُؤَ أصحابي ونُكولَهم عن القتال).
2. يخاطب خارجياً لامه على موقف: (ويحَك أيها الخارجي، لا تقضِ، فإن الذي أحوَجَني إلى ما فعلتُ قَتلُكُم أبي، وطعنكم إيَّاي، وانتهابكم متاعي، وإنكم لما سِرْتم إلى صِفِّين، كان دينُكُم أمامَ دنياكم، وقد أصبحتم اليوم ودنياكم أمام دينكم).
- وحيث كان الوضع بهذه الصورة، فما هو الموقف المسئول المتوافق مع الحكمة والعقل؟
- نعود إلى الخطبة الشقشقية حيث يقدِّم الإمام علي (ع) الموقف المنطلِق من وحي المسئولية، قال: (.... فَسَدَلْتُ دُونَهَا ثَوْباً) جعلت بيني وبينها حجاباً كما يفعل الزاهد في الشئ ولا يرغب فيه (وَطَوَيْتُ عَنْهَا كَشْحاً) ملت عنها تجنّباً وابتعاداً (وَطَفِقْتُ أَرْتَئِي بَيْنَ أَنْ أَصُولَ بِيَد جَذَّاءَ) مقطوعة حيث لا يوجد عددٌ كافٍ من الناصرين الذين يمكن الاعتماد عليهم في تغيير الواقع إلى ما ينبغي أن يكون عليه (أَوْ أَصْبِرَ عَلَى طُخْيَة) ظُلمة (عَمْيَاءَ) حيث لا يُعلم إلى أين ستسير الأمور وما هي مآلاتها (يَهْرَمُ فيهَا الكَبيرُ، وَيَشِيبُ فِيهَا الصَّغِيرُ) إذ يبدو أن المسألة لن تكون بسيطة بل اختبار عسير، وأن الزمن الذي ستستغرقه لن يكون قصير الأمد (وَيَكْدَحُ فِيهَا مُؤْمِنٌ حَتَّى يَلْقَى رَبَّهُ) وبين هذين الخيارين، ما هو الموقف الحكيم والمنطلق من تحمّل مسئولية الأمة والدين وإن استدعى- لمصلحةٍ أكبر - التضحية بما هو حقٌّ له؟ (فَرَأَيْتُ أَنَّ الصَّبْرَ عَلَى هَاتَا أَحْجَى، فَصَبَرتُ وَفي الْعَيْنِ قَذىً، وَفي الحَلْقِ شَجاً، أرى تُرَاثي نَهْباً....).
- هذا المقطع من الخطبة الشقشقية ينطبق على وضع الإمام الحسن (ع) تماماً، وإن تغيَّرَت الأسماء والتفاصيل.. وبهذه القاعدة عَمِل مِن وَحي تحمّل المسئولية واختيار المر على ما هو أمرّ.
- وهذا الاختيار لا يعني التخلي عن المسئولية والتشريف الإلهي له، حتى يقال: إن كانت الإمرة تكليفاً إلهياً فكيف يتنازل عنه؟ لأن مسئوليته (ع) لم تكن تقتصر على بُعد واحد، وهو الحكم، بل إن قيامه بدور الإمامة والمرجعية الدينية والحفاظ على النهج الإسلامي الأصيل والمتضمَّنة في حديث الثقلين هي المسئولية الإلهية الكبرى والأساسية بالنسبة له.
- وبمعنى آخر، الإمام لم يتخلّ عن كامل المسئولية، بل عن جزء منها، ولصالح الجزء الأهم.
- قد يقال: ولماذا لم يفعل كما سيفعل أخوه الحسين(ع) في كربلاء؟ أو لماذا لم يفعل الحسين (ع) كما فعل الحسن وأخذ بالقاعدة التي ذكرناها؟
- فإما أن نحكم بخطأ موقف الحسن أو الحسين.
- والإجابة عن هذا السؤال تستدعي القراءة الدقيقة والتفصيلية لاختلاف الظرفين، وبالتالي اختلاف الموقفين، وسأحاول هنا أن أقدّم مجموعة أفكار سريعة تساعد على تصوّر هذا الفارق:
1. الاختلاف بين شخصيتي معاوية ويزيد وسياستهما وكيفية إدارة الأحداث والأزمات لصالحهما.
2. الخط الموالي لأهل البيت (ع) كان معرّضاً للإفناء - قتلاً - على عهد الحسن، بينما صار استشهاد الحسين سبباً لإحياء لهذا الخط. ومن هنا كان البند الرابع من بنود الصلح: (إن أصحاب علي وشيعته آمنون على أنفسهم، ونسائهم، وأولادهم. وعلى معاوية بن أبي سفيان بذلك عهد الله وميثاقه، وما أخذ الله على أحدٍ من خلقه بالوفاء وبما أعطى الله من نفسه).
- وفي العبارة الأخيرة تشديد لا نجده في سائر البنود عند مراجعتها.
3. وُضع الحسين (ع) في كربلاء بين خيارين، التسليم ليزيد أو الموت، قال: (ألا وإنّ الدعي بن الدعي - يعني ابن زياد - قدْ ركز بين اثنتين، بين السلة والذلّة) فما هو الخيار الذي اختاره؟ (وهيهات منّا الذلّة، يأبى الله لنا ذلك ورسوله والمؤمنون، وحُجور طابت وحجور طهرت، وأُنوف حمية، ونفوس أبية، من أن نؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام، ألا وإنّي زاحف بهذه الأسرة على قلّة العدد وخذلان الناصر).
- ولم يقبل القوم بالخيار الثالث الذي فاوضهم عليه مِن قَبل، وهو العودة من حيث أتى أو إلى حيث يشاء، قال: (أيها الناس، إذا كرهتموني، فدعوني أنصرف عنكم إلى مأمني من الأرض).
- وهذا يعني أن المواجهة والموت لم يكونا الخيار الأول للإمام. ولما عَرَض عليه قيس بن الأشعث القبول بالرضوخ لسلطان يزيد قال: (لا والله، لا أُعطيهم بيدي إعطاء الذليل، ولا أفرّ فرار العبيد).
- والتسليم كان يعني القضاء على كل أمل في نفوس الناس لإصلاح ما اعوجّ، فإلى من سيتطلّع الناس مِن بعده لو رضخ لحُكم يزيد وانحرافاته؟
- أما على عهد الحسن (ع) فإن الظرف الذي صالح فيه معاوية كان مختلفاً، إذ لم تتضح للناس إلى الآن معالم وتفاصيل الانحراف لدى الحكم الأموي، كي يكون قتل الحسن في مواجهة شبيهة لكربلاء سبباً لاستيقاظ الأمة من سباتها، ونزع الشرعية عن الحكم الأموي.
4. وقوع حرب غير متكافئة بين الإمام الحسن – وهو حاكم جزء من الدولة – مع معاوية – الذي كان يحكم الجزء الآخر من الدولة – كان يعني احتمال وقوع كارثة بحق الأولى منهما، سفكاً للدماء وانتهاكاً للحُرُمات وعلى نطاق واسع. ومن هنا كان البند الثالث من بنود الصلح أن: (الناس آمنون حيث كانوا في شَامِهم، وعِرَاقهم، وحِجَازهم، ويَمَنِهم).
- لم يكن القرار الذي اتخذه الإمام الحسن (ع) بالتنازل عن الحكم لصالح معاوية خطئاً شرعياً أو إجرائياً كما أثار البعض في قراءتهم المقارِنة لسيرة الإمامين الحسن والحسين (ع)، بل كان قراراً يملكه من جهة، ومبتنياً على الظروف التي كانت تحكم المشهد من جهة أخرى، وأيُّ محاولة للمقارنة بين هذا الحدث مع ما جرى في كربلاء لادّعاء وقوع أحد سبطي رسول الله في الخطأ، ستكون محكومة بالفشل إنْ خضعت لمشرحة التحقيق التاريخي الموضوعي والدقيق.