خطبة الجمعة 21 محرم 1441: الشيخ علي حسن : الخطبة الثانية: الإمام العليل - وقفة نقدية

- أوّل نقطة نعرضها في نقد الصورة النمطية للإمام زين العابدين (ع) باعتباره الإمام العليل، هي وجود اتفاق في المصادر على كون الإمام مريضاً بمرض طاريء قبل المعركة في يوم العاشر.
- والقول بمرضه السابق على المعركة تدل عليه أكثر من رواية، منها ما جاء في الإرشاد للشيخ المفيد حول ما جرى ليلة العاشر: (قال علي بن الحسين زين العابدين (ع): فدنوت منه) أي من الإمام الحسين (لأسمع ما يقول لهم، وأنا إذ ذاك مريض، فسمعت أبي يقول لأصحابه.........) ثم يذكر خطبتَه (ع) وردودَ أفعالِ أصحابه المُصرّين على الثبات ونصرته.
- وفي (مناقب آل أبي طالب) عن كتاب (المقتل): (قال أحمد بن حنبل: كان سبب مرض زين العابدين (ع) في كربلا أنه كان أُلبِس دِرعاً، ففَضُل عنه) كان أطول مما ينبغي (فأخذ الفضلَة بيده ومزّقه)، وارتداء الدرع يعني الاستعداد للمشاركة في الحرب، ولعل هذا كان في يوم التاسع، بلحاظ أنه اليوم المقرر للقتال، وأن التأجيل تم بطلب الإمام الحسين (ع)، ويبدو أن الإمام زين
العابدين أصيب بنوع من التسمم بسبب الجرح الذي أصابه من تمزيق جزء من الدرع.
- كما أن من الممكن أن يكون ذلك قبل التاسع بلحاظ أن الوضع كان متأزماً والقتال محتملاً منذ الوصول إلى كربلاء في الثاني من محرم، وقد يقال قبل ذلك، أي منذ اعتراض الحر للقافلة.
- والاتجاه العام لدى من تحدّث عن واقعة الطف أنه لم يُقاتِل. مثلاً، قال ابن شهر آشوب في (مناقب آل أبي طالب): (ولم يُقتَل زين العابدين لأن أباه لم يأذن له في الحرب، كان مريضاً).
- ولكن في المقابل، هناك ما يدل على أن الإمام زين العابدين (ع) قد قاتل يوم عاشوراء - مع مرضه - إلى أن جُرح، فقد جاء في كتاب (تسمية مَن قُتل مع الحسين (ع) مِن أهل بيته وإخوته وشيعته) الذي جمعه المحدّث الزيدي الفُضيل بن الزبير الأسدي الكوفي، كان معاصراً للإمامين الباقر والصادق (ع)، وشارك مع زيد بن علي في ثورته. وقد طُبع الكتاب أول مرة سنة 1405هـ.
- روى المؤلف أسماء مَن حضر مع الحسين (ع) عن ثلاثة أشخاص من بينهم زيد الشهيد، قال: (وكان علي بن الحسين (ع) عليلاً، وارتُثّ يومئذ، وقد حَضَر بعضَ القتال فدَفَع الله عنه، وأُخذ مع النساء). في (لسان العرب) لابن منظور حول معنى كلمة (ارتُث): (أي حُمِلَ من المعركة رَثيثاً، أَي جَريحاً وبه رَمَقٌ).
- وسواء أ قبِلنا برواية المشاركة في القتال أم لم نقبل بها، من مجموع ما سبق يتبيّن لنا الحالة الصحية للإمام زين العابدين (ع) كانت طارئة، ولم يكن مصاباً بمرض مزمن أو بإعاقة جسدية، لكي نتخيّله في صورة الإنسان الضعيف، أو صاحب الشخصية الانهزامية أو الانسحابية.
- النقطة الثانية موقف الإمام زين العابدين (ع) في الأسر، ففي كتاب (الاحتجاج) للطبرسي (ت560 هـ) عن (حِذْيَم) أي الحاذق (بن شُريك الأسدي) قال: (لما أتى علي بن الحسين زين العابدين بالنسوة من كربلاء، وكان مريضاً، وإذا نساء أهل الكوفة ينتدبن مشقَّقات الجيوب، والرجال معهن يبكون. فقال زين العابدين (ع) - بصوت ضئيل وقد نهكته العلة -: إن هؤلاء يبكون علينا؟! فمن قتلنا غيرُهم؟ فأومت زينب بنت علي بن أبي طالب (ع) إلى الناس بالسكوت. قال حِذْيَم الأسدي: لم أرَ والله خفرةً قط أنطقَ منها، كأنها تنطق وتُفرِغُ على لسان علي (ع)، وقد أشارت إلى الناس بأن أنصِتوا. فارتدّت الأنفاس وسكنت الأجراس، ثم قالت...).
- ثم ينقل الراوي كيف طلب منها الإمام (ع) الاكتفاء بما قالت بعد أن زلزلت الحضور: (قال حِذْيَم: فرأيتُ الناسَ حَيارى، قد ردُّوا أيديهم في أفواههم.... فسكتت. ثم نزل (ع) وضرب فسطاطه، وأنزل نساءه، ودخل الفسطاط).
- قال الطبرسي في تتمة الخبر: (احتجاج علي بن الحسين (ع) على أهل الكوفة حين خرج من الفسطاط وتوبيخه إياهم على غدرهم ونكثهم. قال حِذْيَم بن شريك الأسدي: خرج زين العابدين (ع) إلى الناس وأومأ إليهم أن اسكتوا فسكتوا، وهو قائم، فحمد الله وأثنى عليه، وصلى على نبيِّه، ثم قال: أيها الناس مَن عرَفني فقد عرَفني! ومن لم يعرفني فأنا علي بن الحسين، المذبوح بشط الفرات من غير دخَل) أي فساد، وفي رواية ذَحْل أي ثأر (ولا تِرات) جمع تِرَة أي ثأر (أنا ابن من انتُهك حريمُه، وسُلب نعيمُه، وانتُهِب مالُه، وسُبيَ عيالُه، أنا ابن مَن قُتل صبراً، فكفى بذلك فخراً. أيها الناس ناشدتُكم بالله، هل تعلمون أنكم كتبتم إلى أبي وخدعتموه، وأعطيتموه مِن أنفسكم العهد والميثاق والبيعة؟ قاتلتموه وخذلتموه، فتباً لكم ما قدَّمْتم لأنفسكم، وسوءً لرأيكم، بأية عين تنظرون إلى رسول الله (ص)، يقول لكم: قتلتم عترتي، وانتهكتم حرمتي، فلستم من أمتي؟ قال: فارتفعت أصوات الناس بالبكاء، ويدعو بعضهم بعضاً: هلكتم وما تعلمون....).
- الخطبة المروية طويلة، وهي بمجموعها تدل على قوة وشجاعة في مواجهة موقف عصيب.
- الموقف الآخر في الأسر كان في الشام، حيث روى ابن أعثم الكوفي (ت314هـ) في (الفتوح):
(ثم أُتي بهم حتى أُدخلوا على يزيد وعنده يومئذ وجوه أهل الشام، فلما نظر إلى علي بن الحسين (رض) قال له: من أنت يا غلام؟ فقال: أنا علي بن الحسين، فقال: يا علي! إنّ أباك الحسين قطَع رحِمي وجَهِل حقي ونازعني سلطاني، فصنع الله به ما قد رأيت! فقال علي بن الحسين: [مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَٰلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ]. فقال يزيد لابنه خالد: أردد عليه يا بني! فلم يدر خالد ماذا يقول...).
- وبعد أن نقل ابن أعثم بعض التفاصيل نقل عن يزيد قوله: (.... أراد أبوك وجدُّك أن يكونا أميرين، فالحمد لله الذي أذلَّهما وسفك دماءهما. فقال له علي بن الحسين: يا ابن معاوية وهند وصخر! لم يزالوا آبائي وأجدادي فيهم الإمرة مِن قبل أن نلد، ولقد كان جدي علي بن أبي طالب (رض) يوم بدر وأحُد والأحزاب في يده رايةُ رسول الله (ص)، وأبوك وجدُّك في أيديهما راياتُ الكفار).
- ثم نقل أبياتاً من الشعر وأضاف: (ويلك يا يزيد! إنك لو تدري ما صنعتَ وما الذي ارتكبتَ مِن أبي وأهلِ بيتي وأخي وعمومتي، إذاً لهربتَ في الجبال وفرشت الرَّماد، ودعوتَ بالويل والثُّبور أن يكون رأسُ الحسينِ ابنِ فاطمة وعلي منصوباً على باب المدينة! وهو وديعة رسول الله (ص) فيكم، فأبشِر بالخزي والندامة غداً إذا جُمع الناس ليومٍ لا ريب فيه).
- وأضاف ابن أعثم: (ثم دعا يزيد بالخاطب وأمر بالمنبر فأُحضِر، ثم أمر الخاطب فقال: اصعد المنبر فخبّر الناس بمساوئ الحسينِ وعليٍّ وما فعلا! قال: فصعد الخاطب المنبر فحمد الله وأثنى عليه، ثم أكثر الوقيعة في علي والحسين، وأطنب في تقريظ معاوية ويزيد، فذكرهما بكل جميل. قال: فصاح علي بن الحسين: ويلك أيها الخاطب! اشتريتَ مرضاةَ المخلوقِ بسَخَط الخالق، فانظر مقعدك من النار. ثم قال علي بن الحسين: يا يزيد، أتأذن لي أن أصعد هذه الأعواد فأتكلم بكلام فيه رضا الله ورضا هؤلاء الجلساء، وأجرٌ وثواب؟ قال: فأبى يزيد ذلك، فقال الناس: يا أمير المؤمنين، ائذن له ليصعد المنبر، لعلنا نسمعُ منه شيئاً! فقال: إنه إنْ صعَد المنبر لم ينزل إلا بفضيحتي أو بفضيحة آل سفيان، قيل له: يا أمير المؤمنين، وما قَدْرُ ما يُحسِنُ هذا؟ قال: إنه من نسلِ قوم قد رُزقوا العلم رِزقاً حسناً. قال: فلم يزالوا به حتى صعَد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، ثم خطب خطبة أبكى منها العيون وأوجل منها القلوب...) وذكر الخطبة المعروفة.
- إن هذه الشواهد التاريخية من سيرة الإمام زين العابدين (ع) تؤكد بطلان الصورة النمطية المقدّمة عنه، والتي توحي بأنه العليل ذو الشخصية الانسحابية المنعزلة التي آثرت الانقطاع عن الحياة، بعد أن أصابته بحسب تعبير البعض (عقدة) ما جرى في كربلاء فدفعته إلى الانزواء في حالةٍ نفسية محطَّمة، كره معها كل شيء يرتبط بهذه الحياة... والواقع أن دراسةَ سيرتِه المباركة تُوقفنا أمام مدرسة عظيمة إيمانية وأخلاقية وروحية وفكرية وتربوية واجتماعية وسياسية عنوانها الإمامُ علي بن الحسين زين العابدين.