خطبة الجمعة 7 محرم 1441: الشيخ علي حسن : الخطبة الثانية: القرابين البشرية

- عَرف الناس تقديم القرابين منذ فجر تاريخ الإنسان العاقل المعاصر، فقد تحدّث القرآن الكريم عن قصة ابني آدم، وضمّنها تقديمهما للقربان: (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) [المائدة:27].
- وهو يمثّل – وفق الإرادة الإلهية – نوعاً من تأكيد العبودية، والطاعة المطلقة، والشكر للخالق المنعم (سبحانه)، وترفّعاً عن الدنيا ومادياتها، وتزكيةً للنفس من البُخل وحب الذات وغير ذلك.
- ولربما إلى هذا أشارت الآيات التالية: (لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ.... وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ) [الحج:28-34]. والمنسك يعني العبادة التي فيها ذبح و تقريب قربان، أي أن الله شرّع لكل أمة - من الأمم السالفة المؤمنة - عبادة تتضمّن تقريب القرابين.
- وفي التوراة الحاضرة أن نوحاً (ع) بمجرد أن نزل من السفينة قدّم القرابين لله (عز وجل): (وَبَنَى نُوحٌ مَذْبَحًا لِلرَّبِّ. وَأَخَذَ مِنْ كُلِّ الْبَهَائِمِ الطَّاهِرَةِ وَمِنْ كُلِّ الطُّيُورِ الطَّاهِرَةِ وَأَصْعَدَ مُحْرَقَاتٍ عَلَى الْمَذْبَحِ) [سفر التكوين – 8: 10]. والله أعلم.
- وعندما بعث الله (عز وجل) موسى (ع) نبياً، شرّع لأمتّه تقديم القرابين ضمن مراسيم معينة، ومن بينها الأبقار والأغنام، على أن يُحرق هذا القربان في النار، ولا يستفيد منه أحد.
- ولعل ذلك – في جانب منه - لمعالجة ما يُعرف عن بني إسرائيل من شدّة التعلّق بالمادّيات، فإنّ حرق القرابين أشدّ على الإنسان من أن يرى الآخرين قد استفادوا منها، وقد ينال منهم الشكر.
- إلا أن الناس عندما انحرفوا عن جادة التوحيد وشرائع الأنبياء اتّبعوا الكهنة وسدنة المعابد الوثنية الذين دعتهم نفوسُهم الخبيثة وأطماعُهم الشخصية إلى تحريف هذه الممارسة بصور مختلفة.
- من بين تلك الصور الاستئثار بتلك القرابين لأنفسهم ولشئون المعبد (وَجَعَلُواْ لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُواْ هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا) أي الأصنام (فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلاَ يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاء مَا يَحْكُمُونَ) [الأنعام:136].
- والأبشع من ذلك أن شَرّعوا تقديم الأطفال قرابين بشرية للآلهة لردّ غضبها: (وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ) أي يكون سبباً لإهلاكهم بارتكاب هذه الجريمة، في الدنيا من خلال التخلي عن الفطرة السليمة والاتصاف بالوحشية والقسوة، وفي الآخرة بنيل العقوبة الشديدة (وَلِيَلْبِسُواْ عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ) فهذا ليس من دين الله وتعاليمه، بل تشويه وخداع (وَلَوْ شَاء اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ) [الأنعام:137].
- وقد شاعت ظاهرة تقديم القرابين البشرية من الصين شرقاً إلى المكسيك غرباً، بما يمثّل واحدة من أبشع صور الانحراف عن الفطرة الإنسانية، واتّباعاً للتسويلات الشيطانية.
- ومؤخراً تم اكتشاف رفات 227 طفلاً قُدِّموا قبل 500 سنة تقريباً قرابين إلى (الآلهة) في البيرو، حتى تحميهم من كوارث الطقس، بما يمثّل أكبر موقع مكتشف لتقديم القرابين البشرية في العالم.
- وأوضح رئيس فريق علماء الآثار أن أعمار الأطفال الصغار الذين قُدِّموا كقرابين تتراوح بين 4 و14 عاما، ولا يستبعد الباحثون أن يكون هناك المزيد من الضحايا تحت الأرض.
- وقد يسأل البعض، ألم يكن في الأمر الإلهي الصادر للخليل إبراهيم (ع) بذبح ابنه إسماعيل، أمراً بتقديم قربان بشري؟
- الجواب بالنفي، فقد مرّ بنا في الآية 137 من سورة الأنعام أن الله اعتبر هذا العمل سبباً لهلاك الإنسان، ونوعاً من تشويه صورة الدين، والافتراء على الله، ثم قال في الآية 140: (قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُواْ أَوْلادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُواْ مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاء عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّواْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ).
- أي بالإضافة إلى ما سبق، فإن هذا العمل خسران، وسفه، وضلال.. فكيف يأمر الله (عز وجل) إبراهيم (ع) بالقيام بعمل يتضمن كل هذه الصفات السلبية؟
- لقد كان ذلك الأمر حلقةً من سلسلة اختبارات ابتُلي بها النبي إبراهيم (ع) لينال مقامه الرفيع عن استحقاق وجدارة: (وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) [البقرة:124].. وما كان الغرض منه أن يذبح أحداً.
- وإذ أتمّ الخليل إبراهيم (ع) ذلك الابتلاء الصعب حين أمره الله (عز وجل) بذبح ابنه إسماعيل، بعد كل تلك السنوات الطويلة التي انتظر فيها أن يرزقه الله الذرية الصالحة، وحيث استجاب ابنُه البارُّ إسماعيل ولم يتردد، ليضربا بذلك أروع مثال على الطاعة التامة لله، ولينالا سعادةَ أن يكون من ذريتهما خاتمُ النبيين وسيدُ المرسلين محمد (ص)، استجابةً لدعائهما: (رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)، فقد شاء الله أن يجعل من الحسين (ع)، سليلِ النبوةِ الممتدةِ عبر الزمن، قرباناً لدينه، وسبباً لنجاة أمته، إذ لم يتردد طَرفة عينٍ أبداً في أن يُضحّيَ بنفسه، وبأولاده، وأهله، وأنصاره، وحتى بالطفل الرضيع ما دام ذلك لله رضاً، وللوقوف في وجه ذلك الانحراف الخطير الذي كان يترصّد بالأمة في دينِها وهويتِها وأخلاقِها.. فما أعظم هذا القربان الذي خلَّدَ الحسينَ عبر التاريخ، وجعل منه أبداً مصباحَ الهدى وسفينةَ النجاة.