خطبة الجمعة 29 ذوالحجة 1440: الشيخ علي حسن : الخطبة الثانية: يا ليتني كنت معهم؟

- قال تعالى: (يَـأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ خُذُواْ حِذْرَكُمْ فَانفِرُواْ ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُواْ جَمِيعاً، وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَن لَّيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُّصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَّعَهُمْ شَهِيداً، وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ الله لَيَقُولَنَّ كَأَن لَّمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يا ليتَنِي كُنتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً)[النساء:71-73].
- تتحدث الآية عن فئة عاشت الضعف في الموقف نتيجة ضعف الإيمان أو الإرادة، فهي لم تنفر مع النافرين، بل تباطأت وتعلَّلت في تباطؤها ببعض الأعذار، فإذا رجع المؤمنون من الجهاد وكانوا في موقع الهزيمة أو القتل اعتبرت هذه الفئة أنها محظوظة بعدم الخروج للمعركة.
- أما إذا رجع المسلمون بالنصر وبالغنائم التي غنموها من العدو، فإن الموقف يتبدل لدى هذه الفئة، ليس إيماناً بالجهاد ولا مواساة للمجاهدين، بل بالنظر إلى الأرباح التي حصل عليها المجاهدون، تماماً كأي إنسان مادّي يعبّر عن الحسرة الداخلية لفوات الفرصة عليه، ويرددون مقولة: يا ليتنا كنا معهم فنفوز فوزاً عظيماً.. وبالتالي فإن الآية تتحدث عن حالة سلبية.
- هكذا استعمل القرآن الكريم هذه العبارة.. وفي المقابل، نجد أن الخطيب الحسيني في مدخل خطابته يقول: (يا ليتنا كنا معكم فنفوز فوزاً عظيماً) ويردد الحضور معه هذه العبارة.. ولا شك أنهم لا يريدون هذا المعنى الانتهازي، بل التمنّي الحقيقي للكون في نصرة الحسين (ع) يوم الطف، لا سيما وأنه (ع) لم يجنِ غنائم مادية.
- ولرّبما مَن اختار هذه العبارة وأدخلها في افتتاحية الخطابة الحسينية قام بذلك بناء على ما جاء في رواية عن الإمام الرضا (ع) خاطب فيها الريان بن شبيب، فكان فيما قال له: (.... يا بن شبيب، إنْ سرَّك أنْ يكون لك من الثواب مثل ما لمن استشهد مع الحسين، فقل متى ذكرته: يا ليتني كنت معهم فأفوز فوزاً عظيماً....)، مع ملاحظة أن الرواية ضعيفة السند.
- وشخصياً أستبعد أن يصدر عن الإمام (ع) ما يدل على أن الثواب المترتّب على مجرّد ترديد هذه العبارة مساوياً لثواب من استشهد يوم الطف، وهل يمكن أن يُقاس الثبات في ذلك الموقف الرهيب والتضحيات المقدّمة فيه، بكلام يردّده مَن يجلس في راحة تامة، تحت التكييف، وهو يحتسي الشاي؟ والأمر سهل بلحاظ ضعف سند الرواية.
- بل حتى لو فرضنا أنّ المتحدث كان صادقاً في نواياه.. لا يمكن أن يتساوى مَن قدّم التضحيات فعلياً، ونال مرتبة الشهادة، مع من يتمنّاها.. والمروي عن النبي (ص) أنه: (ومن أحب عمل قوم أشرك في عملهم) لا يدل على الحصول على نفس الثواب.
- كما أننا لا نعلم هل سيتطابق موقف هذا المتحدث مع أمنيته في ساعة الحقيقة أم لا... ولنلاحظ ما جاء في الآية التالية: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّواْ أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُواْ الصّلاةَ وَءَاتُواْ الزَّكاة فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُواْ رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخرةُ خَيْرٌ لِّمَنِ اتَّقَى وَلاَ تُظْلَمُونَ فَتِيلاً) [النساء:٧٧].
- فهي تنبّه إلى ضرورة مراجعة النفس قبل إطلاق الأمنيات المتعلقة بالمواقف الصعبة كالقتال.
- إذ أن فئة ممن آمن بالرسالة المحمدية في العهد المكي كانت تضغط على النبي (ص) باتجاه الإذن باستعمال العنف وقتال المشركين الذين كانوا يمارسون كل أنوع الاضطهاد والتعذيب والقتل والتنكيل والضغط بحق المؤمنين.
- وكانت هذه الفئة تشعر بأن التراجع يمثل الذلّ والانهزامية، وتغفل عن:
1. أن مثل هذ المواجهة تتطلب استعداداً عمليّاً، ودراسة للعناصر المقابلة المعادية وطريقة عملها، لتتحدد ما هي المصلحة، وكيفية المواجهة، والظرف والزمن المناسب لذلك.. إلخ، لا أن تكون بناء على ردة فعل انفعالية.
2. احتمال وقوع الإنسان في قبضة الذل من خلال حركة انفعاليةٍ اندفاعية، أكثر مما يعانيه من ذلك فيما لو سيطر على مشاعره وانفعالاته، وخطط لربح المعركة في نهاية المطاف.
3. احتمال كون مصلحة الدعوة أن لا ينتبه المشركون إلى القوة الذاتية التي يملكها المؤمنون في الظرف الراهن.
- ولكن وقف هؤلاء المؤمنون الطيبون الذين كانوا يعانون من اضطهاد المشركين مطالبين باستعمال القوة، حتى قال بعضهم كما في بعض الروايات: (يا نبي الله، كنا في عزّ ونحن مشركون، فلما آمنّا صرنا أذلة).
- ولكن الله (عز وجل) لم يأذن لهم، وأمرهم النبي بالصبر والتحمل، وهو ما عبرت عنه الآية بكف اليد، والاستعانة بالصلاة والزكاة كوسائل تربوية وروحية وعملية.
- حتى إذا تمت الهجرة إلى المدينة، وتنامت عناصر القوة لدى المؤمنين، واستمر المشركون في اضطهادهم وحصارهم والضغط عليهم أمنياً واقتصادياً، جاء الإذن بالقتال.
- وجاءت ساعة الحقيقة، فكيف تعاملوا معها؟ (فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُواْ رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ).
- إننا حيث نستقبل شهر محرم الحرام، ونُحيي فيه ذكرى استشهاد الحسين (عليه السلام) والثلّة الطيّبة من أنصاره (رضوان الله عليهم) فلنجعل هذه الذكرى بكل ما تحمله من صور خالدة في التاريخ، محطةً للوقوف مع النفس، لاكتشاف مدى المصداقية في الانتماء لمدرسة القرآن الكريم والرسول الأعظم والعترة الطاهرة، ومدى المصداقية في تمنّي نصرة الحسين في يوم الطف، لا سيّما ونحن نعيش أياماً يبلغ فيه طغيان المستكبرين وعربدة الصهاينة الأوج من ذلك، ليس على أرض فلسطين المحتلة فحسب، بل وفي العراق، وسورية، ولبنان، وكشمير، وغيرها من بلاد المسلمين. فما هو موقفنا القلبي على أقل تقدير؟ أم أننا نعيش اللا مبالاة تجاه قضايانا الكبرى بعد أقنعونا أن نعيش همومنا الفردية، أو في الدوائر المحدودة والضيّقة، فنكون مصداق الصورة السلبية للذين كانوا يردّدون مقولة (يا ليتني كنت معهم)، دون أن تنطلق هذه الأمنيات من الإحساس بالمسئولية، بل طمعاً في حطام الدنيا، أو مجرّد كلمات خالية من المضمون.