خطبة الجمعة 15 ذوالحجة 1440: الشيخ علي حسن : الخطبة الثانية: الأحق برسول الله حياً وميتاً

- عندما استجاب رسولُ الله (ص) للأمر الإلهي بالإعلان عن إمامة علي (ع) ومرجعيته الدينية بلحاظ أنه أولُ أهل بيته (ع) كما في خطبة الغدير، في المقطع المتمثّل بالوصية بالثَّقلين، فإنّ ذلك جاء انطلاقاً من أنه لا يمكن أن يقوم وينهض بالرّسالة مِن بَعد رسول الله (ص) إلا الرّجل الذي كانت الرسالة بالنسبة إليه كلَّ عقلِه وكلَّ قلبِه وكلَّ حياتِه، وما ذاك إلا أمير المؤمنين عليّ (ع).
- وقد أتْبع النبيُّ (ص) إيكال مسؤولية الرسالة بعلي (ع) بالإعلان عن ولايته وحاكميته بذات المستوى الذي تمثّلت فيه حاكمية رسول الله وولايته، حيث جاء في الخطبة: (ألستم تشهدون أني أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟) فلما شهدوا بذلك قال: (فمن كنت مولاه فهذا علي مولاه).
- ومن هنا قال علي (ع) في إحدى خطبه: (فَمَنْ ذَا أَحَقُّ بِهِ مِنِّي حَيّاً وَمَيِّتاً؟).. وهو مقطع من الخطبة برقم 197 من نهج البلاغة والتي جاء فيها: (وَلَقَدْ عَلِمَ الْمُسْتَحْفَظُونَ مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ (ص)) وهي الفئة المميزة من أصحاب النبي التي أودعها جزءً من مسؤولية المحافظة على الرسالة مِن بعده، وكان لها من الخصائص والعناية بذلك حال حياته بما يؤهّلهم للقيام بالأمر (أَنِّي لَمْ أَرُدَّ عَلَى اللَّهِ وَلَا عَلَى رَسُولِهِ سَاعَةً قَطُّ).
- هكذا كان علي (ع) يمثّل الطاعة التامة لله ولرسوله، حتى في أصعب المواقف وأشدّها، والتي قد يتردد فيها البعض أو ينكص، كما قال تعالى في أجواء غزوة أحد: (وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُم بِإِذْنِهِ حَتَّىٰ إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُم مِّن بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُونَ عَلَىٰ أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُم...) [آل عمران:152-153].
- مثال آخر هو ما أشار إليه ابن أبي الحديد معلقاً على المقطع السابق من الخطبة حيث قال: (وقد كانت الصحابة تُراجع رسولَ الله (ص) في الأمور، وتسأله عما يستبهِم عليها، وتقول له: أهذا منك أم من الله؟ وقال له السعدان) أي سعد بن معاذ وسعد بن عبادة (رحمهما الله يوم الخندق، وقد عزم على مصالحة الأحزاب ببعض تمر المدينة: أهذا مِن الله أم رأي رأيته من نفسك؟ قال: بل من نفسي، قالا: لا، والله لا نعطيهم منها تمرة واحدة وأيدينا في مقابض سيوفنا).
- (وَلَقَدْ وَاسَيْتُهُ بِنَفْسِي فِي الْمَوَاطِنِ الَّتِي تَنْكُصُ) تتراجع (فِيهَا الْأَبْطَالُ، وَتَتَأَخَّرُ فِيهَا الْأَقْدَامُ) ولنتذكر ما جرى في أحد وخيبر وحنين، وقد قال تعالى حول ما جرى في أحد: (إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ) [آل عمران:155].
- ثم قال (ع): (نَجْدَةً أَكْرَمَنِي اللَّهُ بِهَا).. لم ينس الإمام في هذه اللحظة التي قد يستغرق فيها الإنسان في الأنا، وينسب كل الفضل لنفسه، أن المنعم الحقيقي هو الله، فسبحانه يقول: (وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ) [النحل:53].
- (وَلَقَدْ قُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ (ص) وَإِنَّ رَأْسَهُ لَعَلَى صَدْرِي. وَلَقَدْ سَالَتْ نَفْسُهُ فِي كَفِّي فَأَمْرَرْتُهَا عَلَى وَجْهِي. وَلَقَدْ وُلِّيتُ غُسْلَهُ (ص) وَالْمَلَائِكَةُ أَعْوَانِي، فَضَجَّتِ الدَّارُ وَالْأَفْنِيَةُ، مَلَأٌ يَهْبِطُ وَمَلَأٌ يَعْرُجُ، وَمَا فَارَقَتْ سَمْعِي هَيْنَمَةٌ مِنْهُمْ) والهينمة هي الصوت الخفي (يُصَلُّونَ عَلَيْهِ حَتَّى وَارَيْنَاهُ فِي ضَرِيحِهِ. فَمَنْ ذَا أَحَقُّ بِهِ مِنِّي حَيّاً وَمَيِّتاً؟).
- جو ملائكي لم يكن ليعيه ويدركه إلا علي (ع) نفسه، ومن ذا الذي يستطيع ذلك سواه؟
- لم يكن هذا الكلام من علي (ع) بدافع الفخار والترفّع على الآخرين، بل كان في موقف يحتاج فيه لتذكير الناس بما يمثّله من امتداد حقيقي لرسول الله (ص) حين كثُر الكلام وضعفت النفوس وتردد بعض الرجال في نُصرته في إحدى المواقف تحت طائلة التشكيك في شرعية قتال العدو.
- وهذا ما تؤكده تتمة الخطبة حيث قال: (فَانْفُذُوا عَلَى بَصَائِرِكُمْ) انصروني عن وعي وبصيرة (وَلْتَصْدُقْ نِيَّاتُكُمْ فِي جِهَادِ عَدُوِّكُمْ، فَوَالَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِنِّي لَعَلَى جَادَّةِ الْحَقِّ، وَإِنَّهُمْ لَعَلَى مَزَلَّةِ
الْبَاطِلِ. أَقُولُ مَا تَسْمَعُونَ وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ لِي وَلَكُمْ).
- لقد كانت مواقفُ أمير المؤمنين (ع) في الفترة التي أعقبَت وفاةَ رسولِ الله (ص) في استكانتِه وحركته، وفي إسرارِه وإعلانه، وفي صُلحِه وجهاده، منطلقةً من الدوافع المخلِصة للرسالة التي تحمَّل مسئوليتها، وهو القائل: (اللَّهُمَّ إِنَّكَ تَعْلَمُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنِ الَّذِي كَانَ مِنَّا مُنَافَسَةً فِي سُلْطَانٍ وَلَا الْتِمَاسَ شَيْ‏ءٍ مِنْ فُضُولِ الْحُطَامِ وَلَكِنْ لِنَرِدَ الْمَعَالِمَ مِنْ دِينِكَ وَنُظْهِرَ الْإِصْلَاحَ فِي بِلَادِكَ فَيَأْمَنَ الْمَظْلُومُونَ مِنْ عِبَادِكَ وَتُقَامَ الْمُعَطَّلَةُ مِنْ حُدُودِكَ اللَّهُمَّ إِنِّي أَوَّلُ مَنْ أَنَابَ وَسَمِعَ وَأَجَابَ لَمْ يَسْبِقْنِي إِلَّا رَسُولُ اللَّهِ (ص) بِالصَّلَاةِ)، فلنتعلّم من علي (ع) أن نكون الرساليين، الذين يختارون ما فيه صلاحُ الرسالةِ ولو كان ذلك على حساب مصالحِهم، لا من الذين يجعلون من الرسالة مطيّةً لأهوائِهم، ووسيلةً لبلوغ غاياتهم ومطامعِهم الشخصية، ولو كان في ذلك تشويهٌ لصورة الرسالة، وتحطيمٌ لقداسة الدين في النفوس.