خطبة الجمعة 17 ذوالقعدة 1440: الشيخ علي حسن : الخطبة الثانية: post-feminism الموجة النسوية الثالثة


- النسوية (Feminism) عبارة عن اتجاه فكري نتج عنه حراك اجتماعي، بدأ بالدعوة للانتصار للمرأة وقضاياها، ثم للدعوة للمساواة بينها وبين والرجل على المستويات السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، وفرص العمل، وغيرها.. ثم بدأ يأخذ مناحي أخرى سأبيّنها بشكل تدريجي.
- استُخدم مصطلح Feminism لأول مرة باللغة الإنجليزية، في القرن التاسع عشر بعد أن صاغه الفيلسوف الفرنسي (شارل فوربييه)، والذي انطلق من كون المرأة إنساناً كاملاً وليس في منزلة طفل أو نصف إنسان.
- وهذا يعكس الخلل في نظرة الغرب – آنذاك- تجاه المرأة مما سبّب ردّة فعل مهّدت لهذا الحراك.
- وهكذا، بدأت الموجة النسوية الأولى في نهاية القرن التاسع عشر، واستمرت حتى منتصف القرن العشرين، وكانت - في الأعم الأغلب - تخص النساء من ذوات الطبقات العليا، وفيما له علاقة ببعض المطالبات القانونية والسياسية التي لم يُسمح للمرأة آنذاك بالمشاركة فيها.
- ثم بدأت الموجة النسوية الثانية في العقدين السادس والسابع من القرن العشرين، وأخذت منحىً آخر، برزت فيه حالة من التعصّب للأنثى والمطالبة بالمساواة مع الذكور في كل شيء، مع الدعوة (لتحرر المرأة وجسدها) من أية قيود قانونية أو دينية.
- هذه الموجة تتناقض مع الأولى، فهي في الوقت الذي طالبت فيه بالمساواة مع الرجل، أكدت على الاختلاف بين الجنسين، على عكس الموجة الأولى التي كانت تدّعي عدم الاختلاف بينهما.
- الموجة النسوية الثالثة بدأت في العقد الأخير من القرن العشرين، وما زالت مستمرة إلى هذا اليوم، بل إنها ازدادت حراكاً ونشاطاً وامتداداً خلال السنتين الأخيرتين.
- الموجة النسوية الثالثة تُعرف بعنوان (ما بعد النسوية post-feminism)، فهي ترفع سقف التوقعات والمطالبات، إذ تتحدث عن ضرورة التفريق بين (الجنس) الذي يولد به المولود، وبين (الجندر/ النوع الاجتماعي) الذي ينتمي إليه وفقاً لاختياره، وحرية الإنسان في تحديد ذلك.
- فلربما يولد الفرد (كأنثى: وهذا هو الجنس) إلا أن من حقه أن يختار هويته الجندرية (نوعه الاجتماعي) وفقاً لشعوره بالانتماء إلى فئة الرجال أو النساء، أو لا هذا ولا ذاك!
- كما صارت تناقش قضية الذكورة والأنوثة في بُعدها اللغوي، فعلى أي أساس يوجد (هو وهي)؟ ومن الذي يحدد ذلك؟ ولماذا يتم الاستسلام لذكورية الذين وضعوا قواعد اللغة في كيفية التعبير عن الذكر والأنثى أو ضرورة ذلك؟
- حتى قيل بأن الصعوبات التي تواجه المرأة في مجال الكتابة والإبداع فيها: (لأن اللغة هي – أساساً – ذكورية... فكيف تتمكن بلغة ذكورية أن تشكل خصوصية مختلفة نسائية في نصوصها؟ فاللغة ليست من صنعها، وهي تحتاج إلى علامة تدل على تأنيث ذاتها فكيف تخرج من قلقها الذي تعاني منه صوب لغة ذكورية حتى تتمكن أن تعبر عن مشاعرها وعواطفها؟)
- ومن هنا ظهرت مؤخراً تساؤلات على لسان البعض – في محيطنا الإسلامي - من قبيل: لماذا نعبّر عن الله بالتعبير الذكوري فنقول مثلاً: (قل هو الله أحد) فلماذا لا نقول (قل هي الله أحد)؟ لماذا نفرض أن الله ذكر؟ لماذا لغة القرآن والحديث ذكورية؟
- أسئلة غريبة ما كانت تُطرح من قبل، وهي لم تأت من فراغ، بل نتيجة ما يدور في فَلَك هذه الموجة الثالثة للنسوية، وأطروحاتها الفلسفية التي هي بالنسبة إلى جيلنا غريبة، ولكنها بالنسبة لبعض الشباب منطقية وتنتظر الإجابة عليها.
- وهكذا جاءت موجة التساؤل عن تشريع الستر الشرعي للمرأة (الحجاب)، وإنكار بُعدها القرآني، ولماذا تُلزَم المرأة بلباس معيَّن دون الرجل، وارتباط ذلك بذكورية المشرِّعين ورجال الدين، وما إلى ذلك من أسئلة وأطروحات ذات علاقة بالأمر.
- وهكذا تُطرح حوارات تتضمن أفكاراً من قبيل أن الأمومة قد تكون عائقاً أمام المرأة، فهل خُلقت المرأة لتكون أمّاً؟ وهل غريزة الأمومة متوافرة في كل امرأة؟ ولماذا لا يكون العُقم اختياراً للمرأة؟
- من الواضح أن بعضاً من الأسئلة السابقة ترتبط بقضايا اعتُبرت طوال التاريخ من البديهيات، ولكنها مع الموجة النسوية الثالثة صارت محط تساؤل وتشكيك، بل ورفض.
- هوليوود وأخواتها دخلت على الخط.. فتزامناً مع اشتداد الحملة النسوية الثالثة ظهرت مجموعة كبيرة من الأفلام والمسلسلات والبرامج التي تروّج لمجموعة من أفكار هذه الحملة، مع التركيز على قضيتين:
- القضية الأولى متعلقة بإظهار قوة المرأة وأنها لا تقل عن الرجل في شيء بل تتفوق عليه أيضاً، وهذه ليست بجديدة، ولكن هناك حملة مركزة في هذا الاتجاه بما يخدم أطروحات النسوية الثالثة.
- والقضية الثانية التي يتم التركيز عليها لها ارتباط بالعلاقات الشاذة بين النساء، والتشجيع على هذا الأمر بشكل غير مسبوق، من خلال كمية هائلة من الأفلام والمسلسلات التي تشجّع وتبرّر هذا السلوك الشاذ، في محاولة لإظهار الأمر على أنه تصرّف طبيعي ومنسجم مع الفطرة.
- الأدهى من ذلك، أن (والت ديزني) أنتجت مؤخراً فيلماً للرسوم المتحركة للأطفال وخاصة بإحدى شخصياتها المشهورة والمحبوبة لدى الفتيات (علماً بأن الفيلم في نسخته الأولى حصد أرباحاً تفوق المليار دولار) وستُطلقه خلال الأشهر القادمة، وهذه النسخة الثانية للفيلم – بحسب التسريبات –ستقدّمها على أنها فتاة ذات ميول شاذة. وهذا الأمر غير مسبوق في عالم إنتاج أفلام الأطفال.
- ولذا، منذ سنة تقريباً، عند تسريب هذا الخبر، انشغل الرأي العام الأمريكي، ووسائل التواصل الاجتماعي بمناقشة هذه القضية بشكل كبير جداً في بُعديه التربوي والأخلاقي، وكان بمثابة الصدمة للبعض إلى درجةِ التشكيك في صحة التسريبات.
- مجموع الأمثلة والمعطيات السابقة - وهي مجرد غيض من فيض - حول مضمون الموجة النسوية الثالثة في زخَمِها الأخير، يستدعي وقفة ثقافية جادة يتحمل مسئوليتها المفكرون الإسلاميون وعلماء الدين والتربويون وأهل الاختصاص في المجالات النفسية والاجتماعية لمعالجة القضايا المطروحة والإجابة على التساؤلات الملحّة بثوبها الجديد والتي امتلأت بها وسائل التواصل الاجتماعي ومنتديات الحوار. وأدعو أخواتي المؤمنات الناشطات والعاملات في الساحة الإسلامية، ولا سيما ونحن على أبواب موسم محرم والذي يشهد إقبالاً كبيراً من قبل شريحة الشباب، إلى التركيز في المحاضرات والبرامج التعليمية والتربوية التي يُقمنَها على المسائل المثارة في هذا الإطار، ومعالجتها معالجة عميقة ومتقنة، وفتح آفاق الحوار مع شريحة الشباب بهذا الخصوص، وعدم الاكتفاء بأسلوب التلقين، فهي اليوم – بلحاظ هذا التحدي الفكري والعملي - من أهم والمسئوليات وأكثرِها إلحاحاً.