خطبة الجمعة 10 ذوالقعدة 1440: الشيخ علي حسن : الخطبة الأولى: أموال قذرة


- عن الإمام علي الرضا (ع) أنه قال: (اعلم - يرحمك الله - أن الربا حرام سحت من الكبائر ومما قد وعد الله عليه النار فنعوذ بالله منها، وهو محرم على لسان كل نبي وفي كل كتاب).
- عرفت البشرية الربا مع الحضارات الأولى، أمثال حضارة وادي النيل، ووادي الرافدين.
- ففي عهود الفراعنة بمصر انتشر الربا وشاع التعامل به شيوعاً بلغ فيه سعر الفائدة أحياناً 22%، مما دفع أحد الحكام في القرن الثامن قبل الميلاد أن يضع قانوناً يُحرِّم فيه الربا الفاحش.
- وكانت الحكومات في دول وادي الرافدين القديمة تقوم بتحديد سعر الفائدة، فقد حددته حكومة الكلدان بـ 20% ، وحددته الحكومة الأشورية فيما بين 12% -50% .
- وعُرف الربا - أيضاً - عند الإغريق والرومان، حتى أن الدائن كان له من السلطة ما يخوّل له استرقاق مَدينِه أو حبسه إذا لم يقم بالوفاء، بل كان المدين يرهن نفسه مقابل الدين.
- وهذا ما دعا إفلاطون إلى المناداة بتحريم الربا مطلقاً، إذ جاء في كتابه (روح القوانين): (لا يحل لشخص أن يُقرض أخاً بربا)، وما دعا أرسطو أن يعلن عن استنكار الفائدة الربوية: (ليس منطقٌ أقوى من ذلك الذي يقرر أن أبغض الأشياء هو الربا الذي يستدر الربح من المال ذاته).
- الدكتور جواد علي في كتابه (المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام) في معرض حديثه عن وسائل استثمار الأموال عند الجاهلييين قال: (وفي جملة وسائل استثمار المال: الربا، وقد كان شائعاً بين أهل الجاهلية، كما كان شائعاً بين غير العرب). وقال: (كان اليهود من أشهر المرابين في الحجاز، كما اشتهرت بذلك مكة والطائف ونجران ومواضع المال الأخرى من جزيرة العرب).
- ويأتي هذا من اليهود على الرغم من النهي الوارد في الإصحاح 25 من سفر اللاويين: (وَإِذَا افْتَقَرَ أَخُوكَ وَقَصُرَتْ يَدُهُ عِنْدَكَ، فَاعْضُدْهُ غَرِيبًا أَوْ مُسْتَوْطِنًا فَيَعِيشَ مَعَكَ، لاَ تَأْخُذْ مِنْهُ رِبًا وَلاَ مُرَابَحَةً، بَلِ اخْشَ إِلهَكَ، فَيَعِيشَ أَخُوكَ مَعَكَ. فِضَّتَكَ لاَ تُعْطِهِ بِالرِّبَا، وَطَعَامَكَ لاَ تُعْطِ بِالْمُرَابَحَةِ).
- وقد برّروا ذلك بأن التشريع خاص للعلاقات بين اليهود أنفسهم، بلحاظ كل (أخوك)، إلا أن بأيديهم نصاً آخر يؤكد عمومية التشريع، ففي الإصحاح 18 من سفر حزقيال: (وَالإِنْسَانُ الَّذِي كَانَ بَارًّا وَفَعَلَ حَقًّا وَعَدْلًا.... وَلَمْ يُعْطِ بِالرِّبَا، وَلَمْ يَأْخُذْ مُرَابَحَةً، وَكَفَّ يَدَهُ عَنِ الْجَوْرِ، وَأَجْرَى الْعَدْلَ الْحَقَّ بَيْنَ الإِنْسَانِ وَالإِنْسَانِ، وَسَلَكَ فِي فَرَائِضِي وَحَفِظَ أَحْكَامِي لِيَعْمَلَ بِالْحَقِّ فَهُوَ بَارٌّ. حَيَاةً يَحْيَا، يَقُولُ السَّيِّدُ الرَّبُّ).
- وقد نبّه القرآن الكريم إلى هذه المفارقة حيث قال: (فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَن سَبِيلِ اللّهِ كَثِيرًا، وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُواْ عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا) [النساء:160-161]. والتعبير بـ (النَّاسِ) يعم اليهودي وغيره.
- والغريب أن من فتاوى فقهاء المسلمين اليوم ما يكرر ذات الأمر، فيبيح المراباة مع غير المسلمين تبعاً لبعض الروايات، وهذا برأيي نتاج خلل في منهج الاستنباط الفقهي.
- علماً بأن تقسيم التعامل مع الناس - في عالم الأموال والأمانات والعهود - وفقاً لدينهم لا يتوافق مع منهج القرآن الكريم.. قال تعالى: (وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُم مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ، بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) [آل عمران:75-76].
- وفي القرآن الكريم مقارنة بين نموذجين من الناس: (فآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ، وَمَآ آتَيْتُمْ مِّن رِّباً لِّيَرْبُوَاْ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلاَ يَرْبُواْ عِندَ اللَّهِ وَمَآ آتَيْتُمْ مِّن زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فأولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ) [الروم:38-39].
- النموذج الأول نموذج الإنسان المرابي الذي يُقدِّم أمواله إلى الناس في زمان محنتهم، ولكنه لا يقدِّمها لوجه الله، بل ينتظر المقابل منهم لتتضاعف أموالُه من خلال ذلك.
- هذا المرابي قد يعتبر أن تقديمه للمال تخفيفٌ لمعاناة المحتاجين.. فالناس لا يلجأون إلى المرابي إلا عند الحاجة.. وهو بتقديمه القرض الربوي لهم وتأجيل السداد إلى حين آخر إنما يساعدهم في ذلك الظرف.. ولكن المشكلة تقبع في الفائدة.
- وقد يبرر الفائدة بلحاظ أنه كان بإمكانه أن يوظّف أمواله في التجارة فيربح منها، بينما يقوم بتجميد أمواله لو أنه أقرضها قرضاً بلا فوائد.. وهذا ليس في صالحه، وتصرّف غير عقلائي.
- إلا أن القرآن يرفض هذا المنطق الأعوج ويؤكد على أن المجال المسموح به لتنمية المال هو التجارة: (ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَن جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَىٰ فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) [البقرة:275].
- النموذج الثاني يتمثّل في صورة ذلك الذي يُنفق ماله على الناس عندما تضيق بهم الأمور، ولكن لوجه الله، انطلاقاً من الالتزام الشرعي أو تطوّعاً، ولا يريد منهم شيئاً في المقابل.
- النموذج الأول سيُسلَب البركة.. ففي الميزان الإلهي، لا قيمة لمساعدته وإن ساعد به الآخرين وقضى حاجاتهم، لأنه لم يقصد بذلك وجه الله، بل أراد المنفعة المادية الدنيوية.. وقد يحصل عليها، ولكن لا بركة فيها، فإما أن يعيش بخيلاً فلا يتلذذ بنعيمها إلا بمقدار التلذذ بالتملك، وهو تلذذ مشوب بالخوف والقلق والحرص والطمع والمقارنة مع الآخرين.. وكما روي عن علي (ع) أنه قال: (البخيل يعيش في الدنيا عيش الفقراء، ويحاسَب في الآخرة حساب الأغنياء).
- أو يتنعّم بها ولكنها لن تدوم له، وسيُبتلى بشيء يُنغّص عليه ذلك، لأنه مال محرم سُحت لا بركة فيه. عن الصادق (ع): (مَن كسب مالاً مِن غير حلِّه، سُلِّط عليه البناء والطين والماء).
- أما النموذج الثاني، فإنّ الله سيبارك له في عطائه في الدنيا، ويعوّضه بمثله أو أكثر، وعداً غيرَ مكذوب: (قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) [سبأ:39].. وله في الآخرة عطاء عظيم.
- في نهاية المطاف لابد من التنبيه إلى أن بعضاً من صور الربا تكون خافية على الناس، لِتبدُّل اسمها بمعاملات لا يَحسب الإنسان أنها ربا، وقد نبّه أمير المؤمنين (ع) إلى ذلك حيث قال: (معاشر الناس، الفقه ثم المَتجر، والله لَلربا في هذه الأمة أخفى من دبيب النمل على الصفا)، وفي رواية أخرى أنه قال: (مَن لم يتفقه في دينه ثم اتّجر، ارتطم في الربا ثم ارتطم)، وهو ما يستدعي التثبّت قبل الإقدام على المعاملة، وعدم الاكتفاء بالعناوين التي قد تكون خادعة في بعض الأحيان.