خطبة الجمعة 4 شوال 1440: الشيخ علي حسن : الخطبة الثانية: إلا مَن رحم ربُّك

- (وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ، إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) [هود: 118-119].
- لله سبحانه وتعالى القدرة على أن يجعل الناس على طريقة واحدة في استخدام عقولهم وفي تصوراتهم لكل القضايا المتعلقة بالإيمان والحياة، وهو القائل (إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَآ أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) النحل:40.
- ولكن مشيئته كانت في جعل الإنسان حراً في تفكيره وإرادته، وزوّده بالضوابط الداخلية، كالعاطفة والفطرة والإرادة والعقل، والخارجية كالرسل والرسالات والكتب السماوية ليُحسن الاختيار.
- طبيعة هذه الحرية في التفكير والتصرف أدت إلى تحرك الرغبات الذاتية والانفعالات الشخصية التي قد تتعارض في كثير من الأحايين مع رغبات الآخر وانفعالاته.
- أنا أريد هذا الشيء، وأنت تريده، وذاك يريده.. أنت تصرفت بهذه الطريقة، أنا غضبت، والآخر حزن وابتعد.. إلخ.
- وهكذا يحدث الاختلاف مع الآخر، وينشأ عنه النزاع الذي قد يؤدّي إلى أكثر من نتيجة سلبية.. وهذه النتائج السلبية قد لا تتوقف عند هذين الفردين، بل تنسحب إلى الدائرة الصغيرة المحيطة به، كالزوجة والأبناء، وقد تتوسع إلى العشيرة، أو المجتمع الأكبر..
- نعود إلى الآية حيث يقول سبحانه: (وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ) بحيث لا يستطيعون تحقيق حالة الأمة الواحدة.. فهم في حالة اختلاف دائمة.
- فهل هذا قدر الجميع؟ لقد استثنى الله سبحانه فئة معينة عبّر عنها بعنوان (إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ).. هذه المجموعة يمكنها أن تكون أمة واحدة، فتكون الأمة المرحومة.
- ولعلنا نستطيع فهم الآية بصورة أكثر تفصيلاً من خلال ما جاء في سورة آل عمران [103-108] حول وصف الأمة الواحدة، حيث قال سبحانه: (وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا) أي أن هناك تدخلاً إلهياً في المسألة عندما يجد الأرضية مهيأة والقابلية موجودة لدى هذه الفئة.
- وليس بالضرورة أن نفهم هذا التدخل الإلهي بصورة غيبية محضة، بل قد يكون ذلك بالإضافة إلى وجود النبي (ص) والقرآن وما فيه من تعاليم، وتشريعات، وحِكَم، وأخلاقيات.
- وعلى إثر هذا التدخل الإلهي وتحقّق الألفة والأخوّة، هناك مسئولية الاعتصام بحبل الله وعدم التفرق.. أي لابد من اتخاذ الإجراءات الوقائية، والبنيوية، والعلاجية التي تحفظ هذه النعمة.
- ثم تستعرض الآيات بعض الخطوات الإجرائية التي من شأنها حفظ هذه الحالة:
- (وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ، وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)
- ثم تنتقل الآيات للتحذير من تكرار تجارب السابقين الذين أنعم الله عليهم بهذه النعمة، ولكنهم سرعان ما تخلوا عنها، فصاروا كغيرهم من الذين يعيشون الاختلاف المستمر: (وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ) البينات على المستوى النظري، والبينات من خلال معطيات الواقع وتذوّق حلاوة الألفة والأخوة (وَأُوْلَـئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ).
- ثم يزداد وقع التحذير، فكما تخافون أن يعاقبكم الله على تصرفاتكم على المستوى الشخصي، من خلال المعاصي الفردية، عليكم أن تخافوا أن يعاقبكم الله على التمرد على هذه النعمة: (يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكْفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ، وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) هنا تلتقي الآيات مع قوله تعالى (إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ).
- ثم يأتي التأكيد على جدّية الموضوع، والعدالة الإلهية: (تِلْكَ آيَاتُ اللّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِّلْعَالَمِينَ).
- الألفة، والأخوة، وعدم الاختلاف، وعدم تنازع هذه الفئة، لا يعني أن أحدهم نسخة عن الآخر، بل يأتي ذلك من خلال توفير مجموعة من العوامل، أذكر بعضاً منها باختصار:
1. إنهم لم يخلدوا إلى الأرض ليكونوا ماديين لا يعيرون القيم المعنوية أي اهتمام: (حب الدنيا رأسُ الفتن، وأصل المِحَن).. الإمام علي.
2. تنازلوا عن أنانيتهم وأنكروا ذواتهم بالمستوى الذي آثروا فيه الآخرين على أنفسهم، ووطّنوا
أنفسهم على التضحية من أجل الصالح العام: (وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَـٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [الحشر:9].
3. التزموا بالأخلاقيات الاجتماعية فصدَقوا في القول والعمل وكانوا أمناء مجتمعاتهم: (لا تنظروا إلى كثرة صلاتهم وصومهم وكثرة الحج والمعروف وطنطنتهم بالليل، ولكن انظروا إلى صدق‏ الحديث وأداء الأمانة).. النبي الأكرم.
4. ابتعَدوا عن الجدال: (ثمرة المراء الشحناء).. الإمام علي.
5. ترفّعوا على توافه الأمور: (إن الله كريم يحب الكرم ومعالي الأخلاق ويكره سفسافَها).. النبي.
6. أحسَنوا الظن بإخوانهم: (من حسن ظنه بالناس حاز منهم المحبة).. الإمام علي.
- لقد خلق الله عز وجل الناس ليعيشوا حالة الوئام والسلم والألفة والأخوة فيما بينهم، والتي من خلالها تتجلى الرحمة الإلهية في الدنيا، وينالون بها رحمته الأخروية، وكان شهر رمضان بما فيه من أجواء التراحم والتلاقي والعطاء فرصة لتعزيز تلك النعمة، وتجربة عملية لتذوّق حلاوتها، فلنحذر أن نكفر بها بالعودة إلى سيرتنا الأخرى التي تتعزز فيها صور الاختلاف والتنازع من خلال انبعاث نوازع الشر والأنانية في النفوس.