خطبة الجمعة 19 رمضان 1440: الشيخ علي حسن : الخطبة الثانية: من شرائط وآداب الزكاة

- ذكرت في الخطبة الأولى أن الشريعة الإسلامية أطلقت الزكاة كضريبة مالية، إلا أنها جعلتها محفوفة بمجموعة من الشروط والآداب التي ذُكرت في النصوص الإسلامية حول الزكاة، ومنها:
1- فرضها ليس بغرض تحقيق الثراء لأفراد محددين، أو لطبقة معينة على حساب عامة الناس، بل لتحقيق نوع من التكافل الاجتماعي بين الطبقات المختلفة في المجتمع، ولتأمين احتياجات الدولة في تحقيق الأمن والصحة العامة والتربية وتأمين رواتب العاملين في بعض المجالات، وفي المجال الرسالي، وكل ما يصدق عليه أنه في سبيل الله.
- قال تعالى: (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ) وهي واحدة من عناوين الزكاة.. وهذه الصدقات قد تكون إلزامية، والتي تسمّى زكاة المال، وقد تكون طوعية، من قبيل الصدقة المستحبة والصدقة الجارية الأوقاف، والآية بصدد الحدث عن الصدقات الإلزامية (لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) [التوبة:60].
- وجاءت الآية في معرض ردّها على المشككين في عدالة ونزاهة النبي (ص) في توزيع هذا المورد المالي، فقد جاءت بعد قوله: (وَمِنْهُم مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ) [التوبة:58]، وكأنها تنفي تهمة أن يكون النبي قد وجّه المال لمصلحة شخصية أو عائلية أو طبقية، ولتؤكد أن الموارد المسموح بالإنفاق فيها هي هذه فقط دون غيرها.. وهذا بخلاف ما كانت تقوم به بعض الدول في ذلك الزمان.
- ففي الدولة الرومانية مثلاً، كان العشّارون (نسبةً إلى ضريبة مقدارها 10%) هم جباة الضرائب للدولة، والضريبة مفروضة على كل فرد بالغ، وعلى التجارة والزراعة وغيرها، وتختارهم الدولة من الأثرياء، وكان يزداد ثراؤهم من خلال ذلك بصورة غير مشروعة من خلال المغالاة فيها.
- ومن هنا نجد في الأناجيل ذماً شديداً للعشّارين، وهي الصورة التي تكرَّرت في العهد الإسلامي أيضاً في زمن الدولتين الأموية والعباسية وما بعدهما.
- فقد ظهرت روايات في ذم العشارين على لسان رسول الله (ص) في مصادر السنة والشيعة، ومن بينها: (إذا لقيتم عاشراً فاقتلوه)، وفي رواية عن الدعاء في منتصف الليل: (هذه ساعة يستجاب فيها الدعاء إلا لساحر أو عاشراً)، وأحياناً يُقرَن مع المرأة الفاجرة، وفي ثالثة: (لا يدخل الجنة صاحب مكس) أي جابي الضريبة.. وهناك أحاديث مروية عن أهل البيت (ع).
- وقد وجّه بعض الفقهاء هذه الأحاديث على أنها: (وردت لبيان خطورة هذه الحِرَف، ولزوم الدقة والاحتياط فيها لكثرة وقوع الزلات فيها، وكل عشار رهين بحُسن عمله وحساب ما جباه من الأموال، والحساب رقيق دقيق. ويمكن أن يُحمل أخبار الذم على خصوص الظالمين).
2- فرض الزكاة كضريبة إنما يكون على المقتدرين (الأغنياء) من المسلمين، وفي ذلك عدة روايات من بينها ما جاء عن الصادق ( عليه السلام ) أنه قال: (إن الله عزّ وجلّ فرض للفقراء في أموال الأغنياء فريضة لا يُحمدون إلا بأدائها، وهي الزكاة).
3- ألا تتحول الضريبة إلى غاية في ذاتها، وسبباً لإرهاق الناس، ويمكننا أن نستهدي بكلمات علي (ع) حيث قال لمالك الأشتر في عهده إليه: (وليكن نظرُك في عمارة الأرض أبلغَ من نظرِك في استجلاب الخَراج، لأن ذلك لا يُدرَك إلا بالعمارة، ومن طلب الخَراج بغير عمارة أخرب البلاد وأهلك العباد... ولا يَثقُلنّ عليك شيء خفَّفْت به المؤونة عنهم، فإنه ذخر يعودون به عليك في عمارة بلادك وتزيين ولايتك، مع استجلابك حُسنَ ثنائهم، وتبجّحَك باستفاضة العدل فيهم، معتمداً فضلَ قُوتِهم بما ذخَرت عندهم من إجمامك لهم،َ والثقةَ منهم بما عوَّدْتَهم من عدلِك عليهم في رِفقك بهم، فربما حدث من الأمور ما إذا عوّلت فيه عليهم من بعدُ، احتملوه طيبةً أنفسُهم به، فإنّ العمران محتمِلٌ ما حمّلته، وإنما يُؤتى خراب الأرض من إعواز أهلها).
- بالطبع فإن للفقهاء بحثاً آخر حول مشروعية فرض ضرائب سوى المتعارفة كالزكاة والخمس، وذلك في حالة حاجة الدولة إليها، وليس هذا مجال طرقه.
4- حَفَّ الإسلام هذا التشريع ببعض الآداب التي تسعى للتخفيف من وطأة فرضها، ومن بينها ما جاء في قوله تعالى: (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) [التوبة:103].
- وقد أكمل أمير المؤمنين علي (ع) الصورة في رعايته لآداب جمع ضريبة الزكاة. ففي قسم الكتب من نهج البلاغة تحت عنوان (ومن وصية له (عليه السلام) كان يكتبها لمن يستعمله على الصدقات. وإنما ذكرنا منها جملاً هاهنا ليُعلَمَ بها أنه (عليه السلام) كان يقيم عماد الحق، ويُشرِع أمثلةَ العدل، في صغير الأمور وكبيرها، ودقيقها وجليلها): (انْطَلِقْ عَلَى تَقْوَى اللهِ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَلاَ تُرَوِّعَنَّ مُسْلِماً، وَلاَ تَجْتَازَنَّ عَلَيْهِ كَارِهاً، وَلاَ تَأْخُذَنَّ مِنْهُ أَكثَرَ مِنْ حَقِّ اللهِ فِي مَالِهِ. فَإِذَا قَدِمْتَ عَلَى الْحَيِّ فَانْزِلْ بِمَائِهِمْ مِنْ غَيْرِ أَنْ تُخَالِطَ أَبْيَاتَهُمْ، ثُمَّ امْضِ إِلَيْهِمْ بِالسَّكِينَةِ وَالْوَقَارِ، حَتَّى تَقوُمَ بَيْنَهُمْ فَتُسَلِّمَ عَلَيْهِمْ، وَلاَ تُخْدِجْ بِالتَّحِيَّةِ لَهُمْ، ثُمَّ تَقُولَ: عِبَادَ اللهِ، أَرْسَلَنِي إِلَيْكُمْ وَلِيُّ اللهِ وَخَلِيفَتُهُ، لآخُذَ مِنْكُمْ حَقَّ اللهِ فِي أَمْوَالِكُمْ، فَهَلْ لِلَّهِ فِي أَمْوَالِكُمْ مِنْ حَقّ فَتُؤَدُّوهُ إِلَى وَلِيِّهِ؟ فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: لاَ، فَلاَ تُرَاجِعْهُ، وَإِنْ أَنْعَمَ لَكَ مُنْعِمٌ، فَانْطَلِقْ مَعَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ تُخِيفَهُ أَوْ تُوعِدَهُ أَوْ تَعْسِفَهُ أَوْ تُرْهِقَهُ، فَخُذْ مَا أَعْطَاكَ مِنْ ذَهَب أَوْ فِضَّة، فَإنْ كَانَتْ لَهُ مَاشِيَةٌ أَوْ إِبِلٌ فَلاَ تَدْخُلْهَا إِلاَّ بِإِذْنِهِ، فَإِنَّ أَكْثَرَهَا لَهُ، فَإِذَا أَتَيْتَهَا فَلاَ تَدْخُلْها دُخُولَ مُتَسَلِّط عَلَيْهِ وَلاَ عَنِيف بِهِ، وَلاَ تُنَفِّرَنَّ بَهِيمَةً وَلاَ تُفْزِعَنَّهَا، وَلاَ تَسُوءَنَّ صَاحِبَهَا فِيهَا، وَاصْدَعِ الْمَالَ صَدْعَيْنِ، ثُمَّ خَيِّرْهُ، فَإِذَا اخْتَارَ فَلاَ تَعْرِضَنَّ لِمَا اخْتَارَهُ، ثُمَّ اصْدَعِ الْبَاقيَ صَدْعَيْنِ، ثُمَّ خَيِّرْهُ، فَإِذَا اخْتَارَ فَلاَ تَعْرِضَنَّ لِمَا اخْتَارَ، فَلاَ تَزَالُ بِذلِكَ حَتَّى يَبْقَى مَا فِيهِ وَفَاءٌ لِحَقِّ اللهِ فِي مَالِهِ، فَاقْبِضْ حَقَّ اللهِ مِنْهُ، فَإِنِ اسْتَقَالَكَ فَأَقِلْهُ، ثُمَّ اخْلِطْهُمَا، ثُمَّ اصْنَعْ مِثْلَ الَّذِي صَنَعْتَ أَوَّلاً حَتَّى تَأْخُذَ حَقَّ اللهِ فِي مَالِهِ).
- في أية شِرعة، بل في منطق أي حاكم يمكنك أن تجد مثل هذا الالتزام والتوجيه ورعاية حقوق ومشاعر الناس؟ إنها مدرسة الإسلام العظيمة التي مزجت بين التشريع والأخلاق والآداب، وكان علي (ع) سيداً من ساداتها، فقدّم لنا هذا الوصف الرائع لجانبٍ من جوانب آداب جمع الزكاة في صورة لا مثيل لها في تاريخ الأولين والآخرين.. إن وجود ضريبة مالية كفريضة الزكاة الملزِمة على الفئات المقتدرة في المجتمع، أمرٌ أقرَّه الله تعالى وشرَّعه واعتبره من حقوق المحرومين عليهم، وقد قال تعالى ذاكراً صفات المؤمنين الصالحين: (وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ، لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ)، إلا أنه اشترط فيها أن تؤطَّر بمجموعة من القوانين وزيّنها بمجموعة من الآداب التي تَضمَن عدم الإضرار بمُعطيها، وعدم تحوّلها إلى جيوب الأغنياء والمتنفذين، وإنفاقَها في الموارد المقرَّرة التي تُخفِّف من وطأة الحرمان لدى بعض شرائح المجتمع، وتساهم في تحريك عجلة التنمية، وأن تراعَى في تحصيلها الآدابُ التي قرَّرها الإسلام، ومن بينها تلك الوثيقة العلوية الرائعة التي جاءت برقم 25 من قائمة الكتب في نهج البلاغة كوصية لعماله في جمع الصدقات، وما جاء في عهده إلى مالك الأشتر وبرقم 53 من سلسلة الرسائل في نهج البلاغة، وما اشتملتا عليه من مباديء أخلاقية وأدبية تؤكد على أن الإسلام في تشريعاته حافظ على الدوام على البعد الإنساني والروحي، لئلا تتحول التشريعات إلى قوانين مادية تفقد في نهاية المطاف جانباً مهماً من غاياتها السامية.