خطبة الجمعة 12 رمضان 1440: الشيخ علي حسن : الخطبة الثانية: علماء شرسون

- عن الإمام الحسن المجتبى (ع) أنه قال: (هلاك الناس في ثلاث: الكِبر والحِرص والحَسد، فالكِبر هلاكُ الدين، وبه لُعن إبليس. والحرصُ عدوُّ النفس، وبه أُخرج آدمُ من الجنة. والحسدُ رائدُ السوء، ومنه قَتل قابيلُ هابيل).
- ذكرت في الخطبة الأولى أن للعلم وطلب العلم قيمةً عليا لا خلاف عليها، وأن هذه القيمة مرتبطة بمجموعة من الأمور التي يجب أن تكون متوافرة في البين، ومن بينها:
1. أن يكون هذا العلم مقرِّباً إلى الله (عزوجل).
- فالعلم الذي يُشغلك عن الله، فتبتعد من خلاله عن الإحساس بالعبودية له، وعن الصلاة، وعن الذِّكر، وعن الالتزام بشريعته.. مثل هذا العلم يكون وبالاً على الإنسان.
- وهكذا، لا خير في علم يقود الإنسان إلى تضخّم الذات، فيترفّع بعلمه على الخلق، كما قال علي(ع): (ومستظهِراً بنعمِ الله على عبادِه، وبحُججِه على أوليائه). والله يبغض المتكبرين.
- بل وقد تتضخم ذاته إلى المستوى الذي يندفع من خلال ذلك حتى إلى إنكار وجود الله.
- والحقيقة أن العلم في ذاته لا يقود إلى مثل ذلك، ولكن سوء التفسير، أو اتّباع الأهواء والشهوات، أو اللامبالاة هي التي قد توصل البعض إلى ذلك.
2. توظيف العلم والمعرفة في اتجاه تحقيق الوعي وتنمية الحكمة في الحياة.
- هناك عدد ملحوظ ممن بلغوا أعلى المراتب العلمية، ولكنهم لا يمتلكون وعياً في القضايا الاجتماعية والتربوية والسياسية، ويفتقدون إلى الحِكمة في تحليل الأمور واتخاذ القرارات، فيتخبّطون في حياتهم خبط عشواء، وقد يكونون (أتباع كل ناعق، يميلون مع كل ريح).
- فهم لم يوظِّفوا عبقريتَهم أو إمكاناتهم العلمية في ما يَخدم حياتَهم العملية لتتكامل في الاتجاه السليم، بل حبسوها في نطاق ضيّق، ففشلوا من حيث كان ينبغي لهم أن ينجحوا.
- ولذا نجد أن الحديث في القرآن عن دور الأنبياء شاملاً للحكمة: (وَلَمَّا جَاء عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُم بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُم بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ) [الزخرف:63].
- حيث لم يكتفِ بالبيان والتعليم، بل قرن ذلك بالحكمة التي من خلالها يوظِّف الناس علومَهم ومعارفَهم فيما يحقق لهم حياةً أكثر أمناً وطمأنينة، وتكون أيضاً مقدمة حقيقية لبناء آخرتِهم.
3. تزكية العلم مِن خلال التعليم، ونشر المعرفة بين الناس، وتوريث ذلك إلى الأجيال.
- من المهم أن يحمل الإنسان رسالة في الحياة، ومن يجد نفسه في طريق العلم، فإن من رسائله في الحياة أن لا يجعل ما توصّل إليه من معارف تفيد الناس وتُصلح أحوالهم الدنيوية أو الأخروية حبيسة عنده، بل يسعى لتقديمها إلى الآخرين، فيشركهم معه في نتائجها، ويورّثها للأجيال القادمة.
4. تأطير العلم بإطار من الطهارة الروحية، بالتعامل مع العلم والمعرفة والتفكير في إطار من الصدق وحُسن النوايا.. أن يبتعد الإنسان عن الشراسة، والأغراض العدوانية، أو النوايا الخبيثة.
- هناك مَن يغلب على تفكيره التحايل أو الكذب أو الحقد أو الإساءة.. ألن يؤثّر ذلك على المعطيات التي يصل إليها في بحثه؟
- ألن تؤثر عليه نفسيتُه العدوانية بحيث تجعله يميل إلى النتائج المتوافقة مع هذه النفسية، أو أن تنعكس هذه النفسية على كلماته وأبحاثه من حيث الأسلوب والمضمون؟
- التربية الروحية تترك أثراً على سلامة العمليّة الفكريّة في كثير من الأحيان، فعندما نقوم بتهذيب النفس من الغضب والحسد والحقد والضغينة والعدوانيّة وسوء الظنّ وغير ذلك، فإن هذا سيساعدنا على أن نفكّر براحة نفسيّة، ونعيش بسلام داخلي، وأن نفكّر أيضاً بروحية رساليّة.
- عن الصادق عليه ‌السلام: (العاقل مَن كان ذَلولاً عند إجابة الحقّ، مُنصِفاً بقوله.... والعاقل لا يتحدّث بما يُنكره العقل، ولا يتعرّض للتهمة، ولايدع مداراةَ من ابتُلي به، ويكون العلمُ دليلَه في أعماله، والحلمُ رفيقَه في أحواله، والمعرفةُ تعينُه في مذاهبِه...).
- عندما نتعلم أو نتناقش أو نحاول العثور على حلٍّ لمشكلةٍ ما، هل نشعر بالرغبة في الاستعلاء على الآخرين والتغلّب عليهم؟ هل نشعر بالقدرة والقوة والرغبة في القهر؟ إذا كان الأمر كذلك فهناك خلل في الحالة الروحية التي لا تنفك عن الارتباط بالحالة العلمية عندنا.
- ولنلاحظ شعور النبي موسى (ع) في الموقف التالي: (فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ
إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ) [القصص:24].. ما أروع هذا التعبير من شاب يشعر بالقوة بعد إنجاز أمر.. قوة الجسم، أو قوة العلم، أو قوة الانتماء.. هكذا تكون الطهارة الروحية.
- بحسب ظاهر الحكمة الحسنية التي بدأت بها الخطبة، فإنَّ كلَّ خصلة من الخصال الثلاث: الكبر والحرص والحسد كفيلة بأن تدمّر الإنسان المبتلى بها في عاجل الدنيا، وفي آجل الآخرة.
- ولك أن تتخيل مقدار الدمار الذي يمكن أن يلحق بالناس لو اجتمعت هذه الخصال أو بعضها في عالمِ دِين، صورة تلخّصت في الحديث النبوي: (صنفان من الناس إذا صَلُحا صَلُح الناس،
وإذا فسَدا فسد الناس: العلماء والأمراء) والمقصود من العلماء هنا خصوص علماء الدين.
- فالناس يتوقعون أن يأخذوا من علماء الدين ما يقرّبهم إلى الله وما يُصلح لهم أحوالهم في الدنيا والآخرة، وأن يكونوا الأمناء على الدين والحفظة له، فكيف إذا تبيّن للناس خلاف ذلك؟ هنا ستكون الصدمة الكبيرة التي ستتجاوز حدّ ذمّ مثل هذا النموذج لتنسحب على الدين نفسه.
- يبدو لي أن بعض دعاة الفضائيات والذين تهاووا في اختبارات المصداقية، وبعضهم تبرأ من ماضيه المليء بالشحن ضد هذا الطرف أو ذاك، وبعضهم قد جيّش الناس للقتال في هذه الجبهة أو تلك، ثم تتبدّى الحقيقة أن المسألة بالنسبة إليه من وراء هذه الدعوات ليست سوى مسألة استرزاق أو طلب للشهرة أو اختيار العيش في القصور المشيدة.. أمثال هؤلاء إنما تنطلق مشكلتُهم أحياناً من الخلل الباطني المتمثّل في فقدانهم روحانية العلم ورساليته، أو في تداخل شراسة النفس مع البحث العلمي، أو في غلبة الأهواء على النوايا، وهو ما يعرّضهم إلى السقوط المدوّي في منعطفات الحياة ومساراتها الملتوية.. وهو ما يؤكد على أهمية الطهارة الروحية في طريق طلب العلم وبثّه، وأن لا يكون تقييمنا لحملة العلم من خلال الانبهار بمقدار ما يملكون من معرفة، أو أسلوب بيان، بل بمقدار مصداقيتهم أيضاً.. ونتأمّل أن يتّعظ المتّعظون من هذه المآلات المؤسفة التي تترك وراءها الكثير من الضحايا على مستوى الناس، وعلى مستوى القيم والمباديء، وعلى رأسها دينُ الله ورسالتُه.