خطبة الجمعة 21 شعبان 1440: الشيخ علي حسن : الخطبة الثانية: ألم تُملأ الأرض جوراً؟ 1


- ذكرتُ في الخطبة الأولى أن المؤمنين بالقضية المهدوية والمتفاعلين معها على المستوى الإيماني والروحي يتساءلون: لماذا لا يخرج الإمام في هذا الزمان، ونحن نشهد أن الظلم قد عمّ الأرجاء؟ وهل هناك ظلم أكثر من هذا الذي يقع اليوم؟ فلماذا لا يخرج ليخلّص البشرية المعذّبة من عذاباتها؟
- الإجابة التي تُقدَّم في كثير من الأحايين تتلخّص في عدم توافر القادة الذين يجب أن يبلغ عددهم 313 رجلاً بحسب بعض الروايات عند السنة والشيعة.
- من بين هذه الروايات ما رواه الحاكم النيسابوري في مستدركه، بسندٍ صحّحَه على شرط البخاري ومسلم عن محمّد بن الحنفية قال: (كنا عند علي (رضي الله عنه) فسأله رجلٌ عن المهدي، فقال علي (رضي الله عنه): هيهات؛ ثمّ عقد سبعاً؛ فقال: ذاك يخرج آخر الزمان، إذا قال الرجل: الله الله قُتل) أي لم يعد المهدي حياً (فيجمع الله تعالى قومه؛ قزعٌ كقزع السحاب) أي من أنحاء متفرقة (يؤلف الله بين قلوبهم، لا يستوحشون إلى أحد، ولا يفرحون بأحدٍ يدخل فيهم، على عدّةِ أصحاب بدر، لم يسبقهم الأوّلون، ولا يدركهم الآخِرون، وعلى عدد أصحاب طالوت الذين جاوزوا معه النهر).
- ومن هنا تأتي إجابة البعض بأن هؤلاء القادة المحدَّدين بالعدد يجب أن يكونوا بصفات معيّنة على مستوى الإيمان والتقوى والصبر والقيادة وغير ذلك من المؤهلات الضرورية. وبالتالي عدم توفّر هؤلاء القادة اليوم هو سبب تأخّر الظهور.
- ولكن في تصوّري أن هذا تبسيط للمسألة من جهة، وقراءة خاطئة للواقع من جهة أخرى.
- قراءة خاطئة على اعتبار أنّ تصوّرَنا عن بلوغ الظلم والجور ذروته في هذا الزمان تصوّر خاطيء.. هناك ظلم بشري بحق الله عزوجل، لاشك في ذلك.. وهناك ظلم على مستوى علاقة البشر ببعضهم البعض، وبما يحيط بهم من بيئة.
- ولكن إنصافاً، أما كان الظلم في القرون الوسطى أشد مما عليه الوضع اليوم؟ اقرأ ماذا كانت تفعل الحكومات الاستبدادية برعاياها.. وكيف كان يتعامل الحاكم مع شعبه.. وكيف كان يُتخطّف الناس.. ثم ماذا فعل المغول.. والصليبيون.. والفتن الدينية.. والمذهبية.. والاستعباد وغير ذلك.
- اليوم تذهب إلى الغرب تجد حقوق الإنسان والعدالة الاجتماعية والنظام وسيادة القانون والحاكم مجرد موظف يُحاسَب على أفعاله وأقواله وبرلمانات وغير ذلك. نعم هي ظالمة في بُعدها عن الله، وظالمة في سياساتها تجاه بعض قضايانا، ولكن الإنصاف أن عبارة (كما مُلئت جوراً وظلماً) غير منطبقة على الواقع المعاش.
- وهكذا عندما تُقيّم الواقع الذي نعيشه في هذا البلد مثلاً، وما فيه من رخاء وأمن وهامش من الحرية وحقوق التعليم والطبابة والمشاركة الشعبية عبر التمثيل النيابي وغير ذلك.
- من جهة أخرى: مَن يقول أن الظهور يرتبط في الأساس بتوفرّ ذلك العدد من القادة فحسب؟
- هل من الصعوبة فعلاً أن نتصوّر توافرهم اليوم؟ يعني من بين أكثر من مليار ونصف المليار من المسلمين لا يوجد مثل هذه الكفاءات؟ وهكذا بالنسبة إلى أزمان سابقة مرت.
- أتصوّر أن مسألة توفر هؤلاء القادة ليس سوى مفردة ضمن مجموعة ظروف يجب أن تتوفر لتكتمل معادلة الظهور.. فالمسألة أعقد من ذلك.. لأنه لابد من ملاحظة مدخلية الأبعاد السياسية والأمنية والاقتصادية والاجتماعية في تحقق الظهور.
- ولعل السيناريو الأقرب للقبول - وهو ما تساعد عليه مجموعة من الروايات – هو ضرورة حدوث انهيار قِيَمي واقتصادي وأمني في العالم بشكل عام، مما يؤدّي إلى نشوب حرب أو حروب كونية مدمّرة، وأوضاع مأساوية على مستويات عدة تدفع بالبشرية إلى القناعة بفشل كل الأنظمة السائدة في حينه، وترقّبها واستعدادها لتقبّل البديل الغيبي الذي يستطيع أن ينتشلها من تلك الأوضاع، وينقلها من عالَم الجور والظلم إلى عالَم القسط والعدل.
- يجب أن تكون البشرية متلهّفة للعدالة حين لا تعود لتجد لها من حضور في حياتها السياسية والاجتماعية والاقتصادية والأمنية، بحيث يكون الإقبال على دعوته منقطع النظير، فعن علي (ع)، أنه قال: (يَدِينُ‏ لَهُ‏ عَرْضُ‏ الْبِلَادِ وَطُولُها، لَا يَبْقَى كَافِرٌ إِلَّا آمَنَ، وَلَا طَالِحٌ إِلَّا صَلَح).
- فهل مثل هذا الإقبال الكبير يمكن أن يتحقق في مثل الظروف التي تعيشها البشرية اليوم؟ وهل عمِلنا على المستوى النظري والعملي على أن يكون للإسلام - على مستوى النظام السياسي والاقتصادي والاجتماعي والفكري والقانوني - تلك السمعة الإيجابية على مستوى العالَم، بل في نظر أبنائنا، بما يساعد على إقبال الناس على قائد ينتمي إليه وينادي بتطبيق مبادئه وتشريعاته؟
- ولذا، فإنّ قناعة البشرية بالنموذج الأصلح الذي سيقدّمه لها الإمام المهدي (ع) تحتاج إلى عمل وتمهيد وإعلام وتطبيق سليم ودقيق وراقي ونموذجي كي تكون القناعة راسخة بأنه (ع) يمثّل الأمل المنشود بالنسبة إليها لخلاصها من الظلم الذي عانت منه على مدى طويل.
- وخلاصة القول، أن إقصار مشروطية ظهور الإمام المهدي (ع) على توافر القادة الثلاثمائة والثلاثة عشر فقط قراءة قاصرة وتبسيطية لعوامل الظهور المبارك، والتي تتطلب قبل ذلك أن نعمل على أن نجعل للإسلام في عيون أبنائنا وفي عيون الآخرين حول العالَم، وعلى المستوى السياسي والاقتصادي والاجتماعي والفكري والقانوني، ومن حيث النظرية والتطبيق، تلك السمعة الإيجابية التي تسمح بإقبال الناس على الإمام ودعوته بصورة منقطعة النظير، بما يتحقّق معه ذلك الأمل المنشود في أن تُملأ الأرض قسطاً وعدلاً‏ كَمَا مُلِئَتْ ظُلْمًا وَعُدْوَانًا.