خطبة الجمعة 15 رجب 1440: الشيخ علي حسن : الخطبة الثانية: إرهاب اليمين المتطرف

- عن أمير المؤمنين عليّ (ع) أنه قال: (أَمَّا بَعْدَ حَمْدِ اللَّهِ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ، أَيُّهَا النَّاسُ، فَإِنِّي فَقَأْتُ عَيْنَ الْفِتْنَةِ، وَلَمْ يَكُنْ لِيَجْتَرِئَ عَلَيْهَا أَحَدٌ غَيْرِي بَعْدَ أَنْ مَاجَ غَيْهَبُهَا) امتدّت ظُلمتُها (وَاشْتَدَّ كَلَبُهَا) اشتدت الإصابة بداء الكَلَب، وهو الداء الذي يصيب مَن يعضّه كلب مصاب به.
- المروي أن هذا القول من علي(ع) جاء بعد فتنة الخوارج وحرب النهروان، وهي فتنة أصابت الناس بالحيرة في كيفية التعامل معها، بلحاظ أن الخوارج كانوا ضمن التقييم الظاهري من أهل الدين، ويحفظون القرآن، ويُكثِرون من العبادة، ذوي الثفنات، وكان شعارهم (لا حُكم إلا لله).
- ولا شك أنّ اتخاذ الموقف الحاسم من هؤلاء القوم بالمواجهة المسلّحة بعد ارتكابهم للجرائم المختلفة وتمرّدهم وامتناعهم عن قبول كل محاولات ثنيهم عن انحرافهم وبالصورة التي عبّر عنها (ع): (مَاجَ غَيْهَبُهَا، وَاشْتَدَّ كَلَبُهَا) يُعدّ أمراً صعباً جداً بالنسبة لقائد يخاف الله (عزوجل)، أو ينظر إلى ردود فعل المجتمع الذي يحكمه... ولذا قال (ع): (وَلَمْ يَكُنْ لِيَجْتَرِئَ عَلَيْهَا أَحَدٌ غَيْرِي).
- قال ابن أبي الحديد: (لأنّ الناسَ كلَّهم كانوا يهابون قتال أهل القبلة، ولا يعلمون كيف يقاتلونهم، هل يُتبعون مولّيهم أم لا؟ وهل يُجهزون على جريحهم أم لا! وهل يُقسمون فيئَهم أم لا! وكانوا يَستعظمون قتالَ مَن يؤذّن كأذاننا، ويصلّى كصلاتنا).
- ثم لاحظ كيف وصف الإمام (ع) حالة مَن يتأثّر بهم ويُبتلى بدائهم.. داء التعصّب الشديد لما هو مقدّس.. إنه يُصاب بالسُّعار.. وصف معبِّر جداً لمن يُبتلى بداء التطرّف لما هو مقدّس بنظره، سواء أكان ديناً أو عِرقاً أو وطناً أو غير ذلك.. وهو داء مُعدي وعنيف جداً.
- وينبغي أن نلاحظ أننا لا نتحدث عن المشاعر الإيجابية التي يحملها الإنسان تجاه مَن يشترك معه في عنوان ما كالدين أو المذهب أو القومية أو الوطن.
- عن الزهري قال: (سُئل علي بن الحسين (عليه السلام) عن العصبية فقال: العصبية التي يأثم عليها صاحبها أن يرى الرجلُ شرارَ قومه خيراً مِن خيار قوم آخرين، وليس من العصبية أن يحب
الرجل قومَه، ولكنْ مِن العصبية أن يُعين قومَه على الظلم).
- أي أن المشكلة حين يتطوّر الأمر ليتحوّل إلى حالة مرَضية تتمثّل في التطرّف الشديد الذي يقودُك إلى أن تتعصّب فتفقد اتزانك في تقييم الآخرين، وتحيد عن الحق في اتخاذ موقف عادل حين يدور الأمر بين هذا الذي هو أقرب إليك وفق عنوان ما، وبين الآخرين.
- ومواجهة مثل هذا التطرّف والتشدد الدينيّ أو العرقي أو حتى الوطني الذي قد يبلغ حدّ الشوفينية ليس بالأمر السهل، فالعناوين التي يتمسّكون بها، والمبررات التي قد يطرحونها لربما تُقنع البعض، خاصة وأن أكثر الناس ينخدعون بالظاهر وبالشعارات.. وإذا نجح المتطرِّفون في الضرب على الوتر العاطفي، ازدادت احتمالات نجاحهم في إصابة الآخرين بعدواهم.
- ولربما لا تُقنع حركتُهم ومقولاتُهم الناس، ولكنهم يكونون عاجزين عن الردِّ عليها وإبطالها، ويقعون لذلك في الشك من الموقف الذي ينبغي اتخاذه منهم.. لاحظ الخبر التالي:
- في المعجم الأوسط للطبراني عن جندب البَجَليّ قال‏:‏‏ ‏‏(لما فارَقت الخوارج علياً) أي أعلنوا التمرد وخرجوا على الدولة (خرج في طلبهم، فانتهينا إلى عسكرِهم، فإذا له دويٌّ كدويِّ النحل مِن قراءة القرآن، وإذا فيهم أصحاب البرانس) أي الذين كانوا معروفين بالزهد والعبادة (قال فدخلني من ذلك شدّة، فنزلت عن فرسي وقمت أصلي وقلت‏:‏‏ اللهم إن كان في قتال هؤلاء القوم لك طاعة فأذن لي فيه. فمرّ بي علي فقال لما حاذاني‏:‏‏ نعوذ بالله من الشك يا جندب. فلما جئتُه أقبَل رجلٌ على بِرذَوْن) غير العربي من الخيل والبغال (يقول‏:‏‏ إنْ كان لك بالقوم حاجة فإنهم قد قطعوا النهر. قال‏:‏‏ ما قطعوه. ثم جاء آخر كذلك ثم جاء آخر كذلك قال‏:‏‏ لا ما قطعوه ولا يقطعونه وليُقتَلُنّ مِن دونِه، عهدٌ مِن الله ورسوله. قلت‏:‏‏ الله أكبر! ثم ركبنا فسايرتُه فقال لي‏:‏‏ سأبعثُ إليهم رجلاً يقرأ المصحف يدعوهم إلى كتاب الله وسنة نبيهم، فلا يقبل علينا بوجهه حتى يرشقوه بالنبل، ولا يُقتل منّا عشرة ولا ينجو منهم عشرة‏.‏ قال‏:‏‏ فانتهينا إلى القوم فأرسل إليهم رجلاً فرماه إنسان فأقبل علينا بوجهه فقعد‏.‏ وقال علي‏:‏‏ دونكم القوم فما قُتِل منا عشرة ولا نجا منهم عشرة‏)‏‏‏.‏
- ثم إن أصحاب المتبنّيات المتطرفة لا يتوقّفون في تطرّفهم عند حد الأفكار والكلمات، بل عادة ما يتجاوزون ذلك ليتطوّر الأمر فينعكس على تصرفاتهم وسلوكياتهم وأفعالهم، تماماً كما كان من الخوارج على عهد أمير المؤمنين (ع)، وكما هو حال التكفيريين في هذا الزمان.
- وكما شهد العالمُ الإرهابَ التكفيريَّ المتدثِّرَ بدِثارِ الإسلام بكل سُعارِه ووحشيته، فإنه استفاق في الجمعة الماضية على وقع عملٍ إرهابي مُخطَّطٍ له مِن قِبَلِ مجموعةٍ يمينيةٍ متطرّفة ضد المصلّين في مسجدين من مساجد نيوزلندا، ليذهب ضحيةَ ذلك عشراتُ المسلمين الأبرياء من الجنسين ومِن كل الأعمار، هذا العمل الذي لم يكتف الإرهابي اليميني بتنفيذه بدمٍ بارد، بل ونقله على الهواء مباشرة عبر الإنترنت بعد أن أعلن مسبقاً في إحدى المنتديات عن عزمه على ارتكاب جريمته، وتلقّى التشجيع والتمنيات بالتوفيق ممن يشاركونه تطرّفَه. وإذا أخذنا بعين الاعتبار ما ذكرته صحيفة الغارديان البريطانية من أن 73,3 % من كل أعمال القتل في الولايات المتحدة خلال العقد الماضي والمرتبطة بالتطرّف وقعت على يد اليمينيين، في مقابل 23,4% منها وقعت على يد الإرهابيين التكفيريين، فإنّ هذا يعني أنّ المجتمع الدولي، ولا سيما الغربي منه، يقف اليوم أمام مسؤوليةٍ جادّة لمواجهة الإرهاب اليميني، كما أعلن الحرب من قبلُ على الإرهاب التكفيري، وإلا فإنّ التفكير في الاستفادة من هذا الإجرام الشيطاني وتوظيفه بصورة أو بأخرى على الطريقة المخابراتية ووفق حسابات بعض المصالح الضيقة لن يعود على أحد بخير.. ولتتذكر المجتمعاتُ الغربية كيف تساهلت مع الإرهاب التكفيري في أوطانها وسمحت له بالانطلاق في العالم الإسلامي، فما لبِثَ أن عاد لينشُرَ داءَه ووبالَه فيها. نسأل الله سبحانه وتعالى المغفرة والرحمة لكل مَن قضى في هذا العمل الإرهابي، والشفاء العاجل للمصابين، وأن يُلهِم الصبر لذويهم، ولا بد من كلمة شكر أخيرة لكل أصحاب النفوس الطيبة بغض النظر عن أديانهم وسائر خصوصياتهم ممّن شاركوا في إبداء التعاطف الإنساني الصادق – بصورة أو بأخرى - في أجواء هذا الحدث الأليم.