خطبة الجمعة 24 جمادى الآخرة 1440: الشيخ علي حسن : الخطبة الثانية: ساعة بعقرب واحد


- تخيل لو أنك تقود سيارة بسرعة جنونية، ومِن حولِك سيارات وأفراد يقطعون الطريق.. وعلى جهتي الطريق مناظر خلابة.. أشجار وحدائق وأبنية جميلة.. كيف سيكون عليه الوضع؟
- أولاً، ستفقد السيطرة على السيارة بشكل كبير، وستكون منقاداً لها أكثر مِن أنْ تكون قائداً.
- ثانياً، ستكون معرّضاً للحوادث، فأقل تلامس مع جسم آخر - سيارة أو إنسان أو حيوان - قد يؤدّي إلى تعرّضك لحادث عنيف، أو إلى إيذاء الآخرين بشدّة دون أن تقصد ذلك.
- ثالثاً، ستفوتك الكثير من المناظر الجميلة أو الملفتة التي لربما وددت أن تشاهدها، وكان بإمكانك أن تستمتع بها لو كانت سرعتك أقل.
- هكذا هو الأمر تماماً حين نستسلم لسرعة إيقاع الحياة، التي طالت الكثير من الأشياء التي نمارسها يومياً، أو التي ترتبط أحياناً بجوانب مصيرية أو حساسة في حياتنا.
- فسرعة إيقاع الحياة طالت التفكير والكلام والطعام والعلاقات الإنسانية والتحصيل العلمي والتنمية الثقافية وحيازة المناصب وتكوين الثروة، والكثير من العناوين.. ولنأخذ بعض الأمثلة:
1- ما عاد بإمكان كثير من الناس أن يقرأوا كتاباً أو يستمعوا إلى محاضرة كاملة.. مع العلم أن البناء المعرفي والفكري لا يتم من خلال المعلومات التي تُقدَّم كما تُقدَّم الوجبات السريعة عبر (بوستات) وسائل التواصل، أو مقاطع الفيديو المُنتجَة ضمن دقائق محدودة جداً.
2- مؤسسة الزواج أصابها هذا الداء.. سرعة الارتباط بعد سرعة التعارف.. ثم سرعة الطلاق.. حتى انتشر – قبل أيام – خبر أسرع طلاق في العالم!
3- لاحظ ما يجري عند توصيل الأبناء إلى المدارس صباحاً.. جنون السرعة من أولياء الأمور يقود إلى مخاطر كثيرة تهدد حياتهم وحياة أطفالهم ومستعملي الطريق بما فيهم التلاميذ أنفسهم.. ولكن أحياناً أشعر وكأن وليّ الأمر يقوم بذلك في صورة حركة ميكانيكية غير واعية.
- المسألة جادّة على مستوى العالم المعاصر ككل.. ومن هنا اندفع البعض لتأسيس جمعيات وأندية والدعوة إلى برامج معيّنة تشجّع كلها على الإبطاء من وتيرة الحياة، ولو بشكل مؤقت، أو بخصوص بعض الممارسات الحياتية، وذلك بغرض العودة إلى التوازن في الحياة اليومية.
- فظهرت مثلاً مجموعات تُسمّى بـ «حركة الطعام البطيء» و«جمعية إبطاء الزمن» تهدف إلى استحداث قوانين تحاول أن تحدّ من سرعة إيقاع الحياة، وتركز على التقليل من وتيرة الضغط النفسي بسبب السرعة وتعريف الشباب بكيفية الاستمتاع الهاديء والبطيء بكل تفاصيل الحياة.
- وقد أصدرت هذه الجماعات قائمة تضم 70 توصية من بينها: تخفيف الضجيج وحركة السير، الهدوء في ممارسة كل شيء، الحفاظ على نوعية الحياة والبيئة الصحيحة، إعطاء المطبخ المحلي قيمة أكثر من الوجبات السريعة.
- وهكذا سعى البعض إلى ابتكار أشياء يمكن أن تُسهم في الحد من الاستسلام لهذا التسارع.
- فقامت شركة ألمانية – مثلاً - بالتعاون مع مصنع سويسري بإنتاج ساعة من عقرب واحد فقط! كما قامت طالبة جامعية في لندن - في إطار مشروع التخرّج - بتصميم زوج من الأحذية الطويلة بشكل مفرط لإجبار مرتديها على إبطاء وتيرة حياته قليلاً بإبطاء خطواته.
- لابد أنْ نلحظ أنّ هذه السرعة في إيقاع الحياة يُتعب الإنسان جسدياً وعقلياً وروحياً.. فيصبح ضعيفاً مستسلماً في كثير من الأحيان إلى تلك الحركة السريعة، فهي التي تقوده وتوجهه كما لو كانت تتقاذفه الأمواج.. كقائد السيارة المسرعة بشكل جنوني إذ يفقد السيطرة عليها.
- وهل يمكن للأبوين المُجهَدين – مثلاً - أن يعتنيا بأطفالهما، وأن يوفَّقا في تربيتهما؟ وهل يمكن للزوج المُستسلِم لهذا الوقع السريع للحياة أن يقوم بمهامه كما ينبغي؟ وهل يمكن للزوجة ذلك؟
- بالإضافة إلى الإجهاد، فإنّ سرعة إيقاع الحياة أفقدَت الناس الإحساس الدقيق بالزمن، فصاروا يخطئون التقدير، ثم يسعون للتعويض، تماماً كما يحصل في الطرقات في ساعات الصباح الأولى.
- وهكذا فإن الوقت – عند الكثيرين – لم يعد كافياً لإنجاز متطلبات الحياة اليومية.
- أجرت إحدى المؤسسات في الولايات المتحدة بحثاً تبين لها من خلاله أن ثلثي العاملين شعروا بأن الوقت لا يتسع لإنجاز جميع المهام.
- وفي استطلاع للرأي شارك فيه 7331 عاملاً في الولايات المتحدة تبيّن أن نصف المشاركين فيه لم يستنفدوا رصيد إجازاتهم قبل انتهاء العام، وعزى أكثرهم ذلك إلى الخوف من تراكم الأعمال عليهم عند العودة من الإجازات.
- ثورة الاتصالات وانتقال المعلومة من مسرّعات هذا الإيقاع، وهي تحمل معها الكثير من المثيرات التي تفوق طاقة الفرد.
- كمية الضخ هائلة، والزمن محدود، والقدرة الاستيعابية للفرد - نفسياً وعقلياً وجسدياً أيضاً - محدودة.
- إحدى الاستبانات تُبيّن أن 94% من العاملين شعروا في وقت من الأوقات بأن المعلومات فاقت قدرتهم على مواكبتها إلى درجة أن عقولهم توقفت عن التفكير.
- كم رسالة صباح الخير تصلك عبر الوتساب في اليوم الواحد؟ وكم إثارة خبرية عن حادث أو مأساة أو رسائل نصية أو صوتية أو مقاطع فيديو تهمّك أو لا تعنيك؟ لربما بالمئات.
- ولو انشغلت عن فتح الوتساب لسويعات قليلة، فستجد أمامك المئات من الرسائل بانتظارك.. هل ستكون سلبياً تجاهها؟ قد يكون بينها ما هو مهم، فتبدأ الفرز والرد والمسح ووو.
- تخيّل لو كنت تملك في نفس الوقت حساباً على التويتر أيضاً والفيسبوك والانستغرام وغيرها.
- الإنسان غير مهيّأ لتنفيذ مهام متعددة في نفس الوقت. بعض الاستبانات تشير إلى أنه في كل مرة تُحوّل فيها انتباهك من مُثير إلى آخر، مثل الاستجابة لتنبيه بورود رسالة عبر البريد الإلكتروني، أو الوتساب أو التويتر أو الفيسبوك، تتأثر قُدرتك الإدراكية سلباً.
- هذه دعوة لعدم الاستسلام إلى الإيقاع المتسارع للحياة بكل ما يحمله ذلك من سلبيات، بما فيها فقدان السيطرة على حركتنا في الحياة.. نحن بحاجة إلى أن نسترجع شيئاً من الهدوء والطمأنينة في حركتنا، لتكون أكثر اتزاناً وتوافقاً مع العقل والحكمة.. مع التأكيد على أن هذه الدعوة ليست دعوة للكسل، بل للهدوء والتأنّي والعودة لاستلام زمام الأمور وحُسن الاختيار بين الكم الهائل من المعروض النافع والضار والتافه في عالمٍ يزدحم فيه كل شيء، وتتراكم فيه المعلومات، وتتضخم فيه الحاجات.. هذا هو العنوان الكبير لمواجهة هذه المشكلة، وتبقى تفاصيل المعالجة بيد الفرد نفسه ليشكّلها كلٌّ بحسب ظروفه واحتياجاته وإمكاناته.