خطبة الجمعة 17 جمادى الآخرة 1440: الشيخ علي حسن : الخطبة الأولى: بصيرةُ أهلِ الذِّكر


- تحدثت قليلاً في الأسبوع الماضي حول ما جاء في الخطبة برقم 222 من نهج البلاغة، وفيها أن علياً (ع) تلا قوله تعالى: (يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ) ثم تكلّم حول ذِكر الله، ومسئولية الذاكرين.
- وقال بعد وصف نهوض أهل الذكر بمسئوليتهم في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإرشاد الضالين: (فَكَأَنَّمَا قَطَعُوا الدُّنْيَا إِلَى الْآخِرَةِ وَهُمْ فِيهَا، فَشَاهَدُوا مَا وَرَاءَ ذَلِكَ. فَكَأَنَّمَا اطَّلَعُوا غُيُوبَ أَهْلِ الْبَرْزَخِ فِي طُولِ الْإِقَامَةِ فِيهِ، وَحَقَّقَتِ الْقِيَامَةُ عَلَيْهِمْ عِدَاتِهَا).
- إنهم ما يزالون في الدنيا، وكلٌّ من البرزخ والآخرة غيب، ولكنهم من خلال ذلك الذكر المستمر خصّهم الله بمرتبة من اليقين بهما، وامتلكوا بصيرة صار معها الغيب بالنسبة إليهم حقيقة مشهودة لا لبس فيها.
- ولكن، هل اكتفوا بأنْ أنعم الله عليهم بما أنعم؟ كلا، بل إنهم انطلقوا في مجتمعاتهم: (فَكَشَفُوا
غِطَاءَ ذَلِكَ لِأَهْلِ الدُّنْيَا، حَتَّى كَأَنَّهُمْ يَرَوْنَ مَا لَا يَرَى النَّاسُ، وَيَسْمَعُونَ مَا لَا يَسْمَعُونَ) تحقُّق مثل هذا الأمر ليس بالسهل، ولكنها البصيرة التي يمنحها الله لهم.
- وواحدة من الصور الغيبية التي شاهدوها بعقولهم، الحساب الأخروي الدقيق: (وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا) [الكهف:49].
- ولذا بادروا لمحاسبة أنفسهم بدقة قبل الوقوف بين يدي الله في ذلك الموقف: (فَلَوْ مَثَّلْتَهُمْ لِعَقْلِكَ فِي مَقَاوِمِهِمُ الْمَحْمُودَةِ وَمَجَالِسِهِمُ الْمَشْهُودَةِ، وَقَدْ نَشَرُوا دَوَاوِينَ أَعْمَالِهِمْ، وَفَرَغُوا لِمُحَاسَبَةِ أَنْفُسِهِمْ عَلَى كُلِّ صَغِيرَةٍ وَكَبِيرَةٍ أُمِرُوا بِهَا فَقَصَّرُوا عَنْهَا، أَوْ نُهُوا عَنْهَا فَفَرَّطُوا فيهَا).
- هذه هي الخطوة الأولى، أما الثانية فهي تحمّلهم لمسئولية ما قدّموا، بالمبادرة إلى إصلاح أخطائهم.. (وَحَمَّلُوا ثِقَلَ أَوْزَاِرِهمْ ظُهُورَهُمْ).
- ولكنهم حيث يجدونها ثقيلة التبعات، يتوجّهون إلى الله بالتوبة والبكاء وطلب العون: (فَضَعُفُوا عَنِ الِاسْتِقْلَالِ بِهَا، فَنَشَجُوا نَشِيجاً، وَتَجَاوَبُوا نَحِيباً، يَعِجُّونَ إِلَى رَبِّهِمْ مِنْ مَقَامِ نَدَمٍ وَاعْتِرَافٍ).
- إن علياً (ع) لا يصف بكلماته هذه ملائكةً مقرَّبين، ولا عباداً معصومين، بل إنه يتحدث عن نموذجٍ قابلٍ أن يكون كلُّ فردٍ منّا مصداقاً مِن مصاديقه، غاية ما في الأمر أن المطالِب لا تُدرَك بالتمنّي.. بل بالعزيمة والهمّةِ والعملِ الجاد.