خطبة الجمعة 10 جمادى الآخرة 1440: الشيخ علي حسن : الخطبة الثانية: الطاقة الهائلة للتسبيح

- ذكرت في الأسبوع الماضي أن القرآن الكريم قدّم في سورة الحِجر وصفة للوقاية والعلاج من الضغط النفسي، وكان من عناصر تلك الوصفة تسبيحُ الله (عز وجل).
- واللافت لمن يراجع القرآن الكريم بخصوص التسبيح سيجد تركيزاً على هذا الذِّكر في موارد الضغط النفسي.. فما العلاقة بينهما؟
- بدءً فلنستعرض نماذج من الآيات في هذا المورد ثم نحاول اكتشاف العلاقة.
- الايات التالية تتحدث عن النبي موسى (ع) في ظرف عصيب جداً كاد أن يموت خلاله: (وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَانِي وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ) [الأعراف:143].
- يونس (ع) حين ابتلعه الحوت بأمر الله (عز وجل)، وأي ظرف عصيب أشدّ من هذا الظرف؟ فبماذا توسّل؟ لاحظ بأيّ ذِكر توجّه إلى الله: (فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَن لّا إِلَهَ إِلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ، فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ) [الأنبياء:87-88]. حتى عُرف هذا الذِّكر عند البعض بعنوان (الذِّكر اليونسي).
- بل نجد في الآيات التالية بيان أهمية هذا الذِّكر في تقرير مصيره: (فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ، فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُسَبِّحِينَ، لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) [الصافات:142-144].
- وهكذا عندما تمنّى زكريا (ع) الولَد، وكان يعيش ظرفاً عصيباً نتيجة الخوف على مستقبل الرسالة من الكهنة غير المؤهّلين لشغل موقعه بعد وفاته، جاءته البشارة، ففكّر في ردّة فعل الناس والموقف الصعب الذي قد يواجهه هو وابنُه: (قَالَ رَبِّ اجْعَل لِّيَ آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزًا وَاذْكُر رَّبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ) [آل عمران:41].
- ولم يكتف بذلك، بل إدراكاً منه لعظمة هذا الذِّكر وأثره قام بالتالي: (فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَن سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا) [مريم: 10-11].
- وفي قصة أصحاب الجنة حين أُحرقت جنتُهم: (قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ) لتلافيتم هذه الخسارة الضخمة: (قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ) [القلم:28-29].
- سيدنا محمد (ص) بالإضافة إلى ما جاء في سورة الحِجر من الأمر بالتسبيح في مواجهة الضغط النفسي الكبير ضمن الأجواء الرسالية الضاغطة نجد في سورة طه هذا التوجيه الإلهي: (فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاء اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى) [طه:130].
- ونجد مثل ذلك في سورة غافر: (فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ) [غافر:55].
- في أجواء غزوة الأحزاب والتحديات الخارجية والداخلية في منتصف عهد الهجرة النبوية يأتي التوجيه الإلهي: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا، وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً)[الأحزاب:41-42].
- بل في سورة الفتح ما يدل على أنّ مِن ضمن غايات إرسال النبي(ص) أن يقوم المؤمنون بالتسبيح: (إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا، لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً) [8-9].
- ما هذه الطاقة العظيمة التي يُعطيها التسبيح؟ ومن أين تأتي؟ مع التأكيد على أنها ليست الخطوة الوحيدة التي تُتّخذ في المواقف العصيبة، ولكنها مُفردة مميزة متكررة.
- باعتقادي أن السر يكمن في ما يرسّخه هذا الذِّكر من تعظيمٍ لله (عز وجل) في النفس..
- إذا عظُم الله في النفس، صَغُر كل شيء في عين الإنسان سواه (سبحانه) كما هو المروي عن علي (ع) أنه قال في وصف المتقين: (عَظُمَ الْخَالِقُ فِي أنْفُسِهِمْ فَصَغُرَ مَا دُونَهُ فِي أَعْيُنِهِمْ). ولهذا نتائج عملية من بينها الاستقامة في الإيمان، وفي الطاعة، مع طمأنينة النفس.
- عظمة الله في النفس تُعطي قوة للإنسان من خلال حالة الطمأنينة التي يعيشها، فليس هناك من موجود يستطيع أن يعترض إرادة الله، وليس هناك من مخلوق يستطيع أن يغلب الله، وليس من شيء يغيب عن الله.. وهذا التعظيم يحتاج إلى ترسيخ، والتسبيح المستمر يقوم بهذه المهمة.
- لاحظ القوة والصلابة والرسوخ لدى مَن يعون حقيقة العظمة الإلهية: (الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا) [الأحزاب:39].
- ومن هنا نفهم سراً من أسرار استحباب تلاوة آية الكرسي للحفظ عند الخوف أو القلق من أمر، لما فيها من مفاهيم تتضمن عظمة الله، فيعيش الإنسان الطمأنينة من خلال تلك المعاني.
- ومن هنا أيضاً نفهم سراً من أسرار تسبيح الزهراء (ع)، بما يتضمّنه من ذِكر التكبير والحمد ثم التسبيح، وما يرسّخه ذلك من خلال التكرار في العدد، والتكرار في الأوقات المختلفة من تعظيمٍ لله، بشرط أن يعيش الذَّاكر معاني هذا الذِّكر لتترسّخ في وجوده وعقله وشعوره.
- وهكذا نفهم السر في كون ذِكر الركوع والسجود هو التسبيح.. وفي قيام بعض الركعات.
- أدعو نفسي وأدعوكم أيها الأعزاء إلى العناية بذِكر الله بُكرة وأصيلاً، وأدبار الصلوات، مع استشعار معاني تلك الأذكار، ومن أفضلها – لا سيما في المواقف العصيبة وعند الشعور بالضغط النفسي – ذِكر التسبيح الذي زخَرت به آيات القرآن الكريم وهي تستعرض سيرة النبيين والمؤمنين، لما يتضمّنه هذا الذِّكر من ترسيخ لحقيقة العظمة الإلهية، وما يترتّب على ذلك من استقامةٍ على مستوى الإيمان والعمل الصالح وطمأنينة الروح وتخفيف ضغوط الحياة على النفس.