خطبة الجمعة 10 جمادى الآخرة 1440: الشيخ علي حسن : الخطبة الأولى: مسئولية أهل الذِّكر

في الخطبة برقم 222 من نهج البلاغة أن علياً (ع) قال عند تلاوته قوله تعالى: (يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ): (إِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى جَعَلَ الذِّكْرَ جِلاءً لِلْقُلُوبِ) إزالة ما يتراكم على القلب مما يمنع عن الاهتداء والاتّعاظ، وبما يُبعد الإنسان عن الله ويجعله حبيس شِراك الشيطان، وحينئذ يمكن للقلوب أن (تَسْمَعُ بِهِ بَعْدَ الْوَقْرَةِ) الصمم أو ثَقْل السمع (وَتُبْصِرُ بِهِ بَعْدَ الْعَشْوَةِ) عدم وضوح الرؤية (وَتَنْقَادُ بِهِ بَعْدَ الْمُعَانَدَةِ.) هكذا يكون أثر هذه التجلية عن طريق الذِّكر (وَمَا بَرِحَ لِلَّهِ - عَزَّتْ آلَاؤُهُ - فِي الْبُرْهَةِ بَعْدَ الْبُرْهَةِ، وَفِي أَزْمَانِ الْفَتَرَاتِ) كالزمن الذي نعيشه اليوم حيث تنقطع علاقتنا المباشرة بأنبياء الله ورسله (عِبَادٌ نَاجَاهُمْ فِي فِكْرِهِمْ، وَكَلَّمَهُمْ فِي ذَاتِ عُقُولِهِمْ) لا عن طريق الوحي (فَاسْتَصْبَحُوا) واهتدوا وعرفوا طريقَهم (بِنُورِ يَقَظَةٍ فِي الْأَبْصَارِ وَالْأَسْمَاعِ وَالْأَفْئِدَةِ).
- ولم يكتفوا بأن يكون مصباحُ الهداية هذا لهم وحدَهم، بل سعوا أن يهدوا الناسَ إلى ما اهتدوا إليه.. وتحمّلوا مسئولياتهم في هذا الطريق.
(يُذَكِّرُونَ بِأَيَّامِ اللَّهِ وَيُخَوِّفُونَ مَقَامَهُ) يذكِّرون الناس بأيام رحمة الله وغضبه، أيام الانتصارات، وأيام الانتقام، بيوم البعثة، ويوم الفتح، ويوم تحقق الوعود الإلهية، ويوم القيامة، والحساب.
(بِمَنْزِلَةِ الْأَدِلَّةِ فِي الْفَلَوَاتِ) حيث يُغيثون الناس ويهدونهم إلى الطريق بغضّ النظر عن خصوصياتهم، ويكونون بمثابة الرحمة النازلة من السماء حين يجدهم الضال.
- فقلوبهم رحيمة إلى أبعد الحدود، يعيشون الإيثار، ويتقرّبون إلى الله بعمل الخير، حريصون على الآخرين حرصهم على أنفسهم، لأنّ قلوبَهم كبيرة، ولذا فإن ردود أفعالهم تكون كالتالي:
(مَنْ أَخَذَ الْقَصْدَ، حَمِدُوا إِلَيْهِ طَرِيقَهُ وَبَشَّرُوهُ بِالنَّجَاةِ. وَمَنْ أَخَذَ يَمِيناً وَشِمَالًا ذَمُّوا إِلَيْهِ الطَّرِيقَ وَحَذَّرُوهُ مِنَ الْهَلَكَةِ، وَكَانُوا كَذَلِكَ مَصَابِيحَ تِلْكَ الظُّلُمَاتِ وَأَدِلَّةَ تِلْكَ الشُّبُهَاتِ) يتابعون عملهم ولا يسأمون، ويغيّرون أساليبهم لعلهم ينجحون، يترصّدون الشبهات ليرفعوها عن أذهان الناس.
(وَإِنَّ لِلذِّكْرِ لَأَهْلًا أَخَذُوهُ مِنَ الدُّنْيَا بَدَلًا، فَلَمْ تَشْغَلْهُمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْهُ، يَقْطَعُونَ بِهِ أَيَّامَ الْحَيَاةِ) هذا الذِّكر يمثّل عنوان مسيرتهم في الحياة الدنيا نحو الآخرة (وَيَهْتِفُونَ بِالزَّوَاجِرِ عَنْ مَحَارِمِ اللَّهِ فِي أَسْمَاعِ الْغَافِلِينَ) فهم غير سلبيين تجاه ما يُحيط بهم مِن أجواء الغفلة عن الله.
(وَيَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ وَيَأْتَمِرُونَ بِهِ، وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيَتَنَاهَوْنَ عَنْهُ) فلا يعيشون الازدواجية في شخصيتهم الإيمانية، لأن ظاهرهم انعكاس لباطنهم.. على خلاف المنافقين والذين في قلوبهم مرَض، مِن الذين اسودّت جباهُهم، ولكن بقيت قلوبُهم سوداء مُظلمة.. ومن الذين لا تُفارق حبّاتُ المِسباح أناملَهم، ولكن بقيت أياديهم مُنغمسةً في معصية الله.. لأنهم لم يعيشوا تقوى الله في حقيقة وجودهم، غفلةً، أو عن سوء فهم، أو لأنهم اتخذوه شِعاراً لخداع الناس، أو ظناً بأنّ لهم أن يخدعوا الله في جنّتِه (يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ) [البقرة:9]. ولنا وقفة مجددة بإذن الله مع هذه الخطبة.