خطبة الجمعة 3 جمادى الآخرة 1440: الشيخ علي حسن : الخطبة الأولى: وصفة سماوية لعلاج الضغط النفسي


- هناك ثلاثة أبعاد لصحة الإنسان:
1. صحة الجسد: ويقابلها مثلاً أمراض الكِلى والجروح وارتفاع ضغط العين... إلخ.
2. الصحة العقلية: ويقابلها مثلاً الفصام، الخَرَف، الاضطراب ثنائي القطب... إلخ.
3. الصحة النفسية: ويقابلها اضطرابات من قبيل: القلق، الاكتئاب النفسي، الرُّهاب... إلخ.
- وتعتبر الضغوط النفسية واحدة من أكثر العوامل النفسية شيوعاً والمؤثّرة سلباً على الصحة الجسدية أو النفسية أو العقلية، وتترتّب عليها اضطرابات كالأرق، والاكتئاب، وضعف التركيز، وسرعة الغضب، وسوء الهضم، والإجهاد السريع، وارتفاع ضغط الدم....
- الضغط النفسي قد ينتج عن المواقف الصعبة التي نمرّ بها في حياتنا، في فترة زمنية محدودة جداً، كفترة الاختبارات المدرسية التي يمرّ بها الطالب مثلاً، أو ممتدة نسبياً كحالة الفقر مثلاً.
- وليس بالضرورة أن تكون هذه المواقف الصعبة أموراً محزنة، كالإعاقة والخلافات الزوجية وفقدان عزيز بل قد تكون أموراً سعيدة من قبيل الإقبال على الزواج أو الانتقال إلى بيت جديد.
- كل هذا قد يسبب الضغط النفسي والذي قد يؤثّر على حياة الإنسان بشكل سلبي، على المستوى الجسدي والعقلي والنفسي، وبالتالي على عطاء الإنسان، وفاعليته في الحياة، وكيفية تعامله مع المسببات والخلفيات العملية لهذا الضغط النفسي.
- القرآن أشار إلى إمكانية أن يعيش الإنسان تحت وطأة الضغط النفسي نتيجة المواقف الصعبة التي قد تتراكم فتكون ضخمة من حيث الكم، أو بسبب نوعية تلك المواقف (الكيف).
- في الآية 97 من سورة الحِجر (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ) وصف لحال النبي (ص) وهو يعيش التحديات المتزايدة، ويواجه المواقف الصعبة، خلال محاولاته المتعاقبة على مدى سنوات لإقناع قريش برسالته.
- ضيق الصدر هنا تعبير عن حجم الضغط النفسي الذي كان يعاني منه النبي (ص) في تلك الظروف المقترنة بالتكذيب والاستهزاء والتحقير والإهانة، وتعذيب وقتل بعض المؤمنين، وعدم استجابة السماء لمطالبات المشركين بنزول الآيات المادية (المعاجز)، ومحدودية عدد المؤمنين بالرسالة، واقتصارهم في الأعم الأغلب على المستضعفين من الناس، وعدم وجود أفق واضح لتغيّر الأوضاع إلى الأحسن، وأمثال ذلك.
- وتُطلعنا سورة الشعراء على نداء النبي موسى (ع) حين جاءه الأمر الإلهي بالقيام بالرسالة: (وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ، قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلَا يَتَّقُونَ، قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ، وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلَا يَنطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ) [10-13].
- لاحظ تأثير الضغط النفسي على إمكانية النجاح في أداء المهمة، وعلى أداء بعض الأعضاء لوظائفها بالشكل المطلوب (وَلَا يَنطَلِقُ لِسَانِي).. أي أن الضغط النفسي يعيق فاعلية الإنسان.
- ولكي يُحافَظ على السلامة النفسية للنبي (ص)، ولكي يستطيع أن يؤدّي الرسالة بالمستوى المطلوب منه، وكي لا تُحبطه تلك المواقف، أو تُقلِّل من نشاطه وفاعليته، قَدّمت آيات سورة الحِجر وَصفة سماوية مركَّبة تتمثّل بالآتي:
1- أن يعيش الإنسان الإحساس بالثقة بالله.. بقدرته ورحمته وعدالته وإحاطته بالأمور ليعيش الأمل والتفاؤل بالمستقبل: (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ.... إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ) [86-95].
2- عدم تقييم الأمور بحسب ظاهرها، بل السعي لامتلاك الوعي بسنن الله في الوجود وبفلسفة التنوّع وتقلّبات الحياة: (لاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ) [88].
3- اعتماد الصفح منهجاً في التعامل مع الإساءات، وإرجاء محاسبة المسيئين إلى يوم الحساب الدقيق والعادل والناشيء عن الإيمان العميق والإحساس الدائم بالحقيقة الأخروية: (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ) [85].
4- اتخاذ خطوة اجتماعية بالتقرّب إلى الأجواء التي ينسجم معها الإنسان ويشعر بالارتياح إليها لانسجامها معه فكرياً أو نفسياً أو من حيث الميول وأمثال ذلك: (وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ) [88] فالتواضع مفتاح تقوية العلاقة بهم، وتحقيق المزيد من الانسجام والتآلف والتلاحم.
5-الانفتاح على القرآن بمفاهيمه التي تُقدّم لنا فلسفة الحياة، وبتوجيهاته التي تُخفِّف من أوجاعنا النفسية، وبقصصه التي تُقدِّم العِبَر: (وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِّنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ) [87].
6- الإقبال على ذِكر التسبيح والتحميد والسجود والعبادة، وعلى رأسها الصلاة: (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ، فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ، وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) [97-99].
- إن من رحمة الله عز وجل بعباده أن أرشدهم في القرآن الكريم إلى شيء مما يُصلح أوضاعَهم الفكرية والنفسية والاجتماعية والسلوكية. وقد قدّمَت آيات سورة الحِجر المباركة وصفةً وقائية عِلاجية لمواجهة الضغط النفسي الذي قد يعاني منه أيّ فرد من بيننا، وما قد يترتّب عليه من اضطرابات جسدية أو عقلية أو نفسية. وقد جاء في علم النفس الإيجابي المعاصر - في نتائج تحصّلت قبل أربعة عقود فقط - أنّ التدين وفعالية الذات والصلابة النفسية والدعم الاجتماعي والعلاقات الطيبة والتفاؤل تمثّل مجموعة من أهم عوامل وقاية ومقاومة الضغوط النفسية، وهو ما يتوافق مع ما جاء في هذه السورة المباركة، وهو القائل سبحانه: (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ) [الإسراء:82].