خطبة الجمعة 19 جمادى الأولى 1440: الشيخ علي حسن : الخطبة الثانية: الأخطاء العلمية في القرآن

- هل في القرآن أخطاء علمية؟ هناك من الملحدين وغيرهم مَن يطرح هذه الشبهة.. فما مدى صحة ذلك؟ وإن كانت التهمة باطلة – كما نعتقد – فكيف الرد عليها؟
- لست بصدد ذكر تفاصيل الشبهات والأمثلة والرد عليها، بل سأطرح بعض الأمور المهمة التي من خلالها ترتفع الكثير من التشكيكات تلقائياً، وهي كالتالي:
1. هناك فرق ما بين اللغة العلمية واللغة الأدبية، أو بين الأسلوب العلمي في التعبير والكتابة والأسلوب الأدبي.. وواحدة من أهم الفروقات بينهما التركيز على البُعد العاطفي في الأسلوب الأدبي إلى جانب الحقائق والأفكار.
- أما في الأسلوب العلمي، فإن الأفكار والحقائق هي الأساس الأول في بنائه، وقلّما نجد الانفعال والعاطفة والمجاز فيه، لأن مدار عنايته هو الوضوح والاستقصاء للحقائق والأفكار.
- وفي اللغة العلمية يتم تحاشي التكرار للأفكار وترديدها أكثر من مرة، وهو على العكس من الأسلوب الأدبي، إذ نجده يكرر المعنى الواحد ويعرضه علينا في عدة صور بيانية مختلفة، تمثل الإجلال والإعظام ، ولعله في كل مرة يكرر عرض الفكرة في صور مغايرة يسبغ عليها دلالات مختلفة.. وأوضح مثال على ذلك تكرار (فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ) في سورة الرحمن.
- أو تكرار (... أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ... أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ... أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) [النمل:60-63].. وهكذا، بعد عرض مجموعة من نعم الله.
- ولست بصدد استقصاء الفروقات بين الأسلوبين، ويمكن لأي مهتم أن يبحث في الإنترنت عن الفرق بينهما، وهناك مؤلفات خاصة بهذا المجال.. القرآن اعتمد الأسلوب الأدبي في لغته.
2. وهذا يجرّنا إلى نقطة أخرى، وهو ضرورة التفريق ما بين اللغة المجازية والحقيقية في القرآن، ولا يصح أن نحاكم بعض الآيات علمياً وهي تتحدث بلغة مجازية.
- وقد ألّف عدد من العلماء واللغويين كتباً في مجازات القرآن، ومن بينهم (مَعْمَر بن المثنّى التيمي) (ت210هـ) وله كتاب (مجاز القرآن) يتناول فيه المجازات بالبيان والشرح آية آية ضمن كل سورة بترتيب المصحف الشريف، وهكذا ألّف الشريف الرضي (ت411ه) كتاب (تلخيص البيان في مجازات القران)، ومن المعاصرين الدكتور أحمد الجبوري صاحب (موسوعة أساليب المجاز في القرآن الكريم).
- عندما يسرد أحدهم مجموعة إشكالات (ويسمّيها علمية) على قوله تعالى: (وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَن تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ) [الحج:65] من حيث سعة السماوات والكم الهائل من الأجرام وضخامتها، أو من حيث أن السماء - بحسب تعبيره - فراغ وغازات سابحة، فكيف سيسقط الفراغ والغازات على الأرض.. هو لا يلحظ أن التعبير في الآية مجازي، تماماً كما في قوله: (وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا) [يوسف:82]، فالقرية لا تُسأل بل أهلها يُسألون.
3. بعض التعبيرات الواردة في القرآن يُلحَظ فيها الجانب الظاهري من الأمور لا واقعها العلمي.
- ولذا لا يصح – مثلاً- أن يأتي شخص ويُشكل على قوله تعالى: (حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ) [الكهف:86] على اعتبار أن هذا التصوير يصحّ لو كانت الأرض مسطحة وثابتة، والشمس تتحرك من اتجاه إلى آخر كما هو التصوّر البشري القديم، فهنا يصح أن نقول (بلغْتُ مغربَ الشمس) و (غربت الشمس في المكان الفلاني).. أما الحقيقة العلمية فخلاف ذلك.
- فالآية إنما تصف الأمور كما كانت ظاهرة بالنسبة لذي القرنين، لا في واقعها العلمي.
4. لا يصح أن نفهم بعض الكلمات من خلال مدلولها في هذا العصر، فقد يتغيّر المعنى الذي نستعمل فيه ذات الكلمة ولو تغيّراً جزئياً.. وهذا ما يدفعنا إلى ضرورة التريّث والعودة إلى المعاجم اللغوية لاستقصاء المعاني المحتمَلة للكلمة.
- فكلمة هلك – مثلاً - في معناها المستعمل اليوم ذات دلالة سلبية، ولا نستعملها إلا بحق الأعداء والأفراد الذين نكرههم، ولكن لاحظ: (لَقَدْ جَاءكُمْ يُوسُفُ مِن قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِّمَّا جَاءكُم بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَن يَبْعَثَ اللَّهُ مِن بَعْدِهِ رَسُولًا) [غافر:34].. وهكذا بالنسبة إلى كلمات من قبيل: نجم، وكوكب، وعظم، وغيرها من كلمات مستعملة في القرآن الكريم وهي لا تتطابق مع المعاني العلمية المتداولة اليوم.
- إن الله عزوجل يقول: (وَبِالْحَقِّ أَنزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا، وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَىٰ مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلًا، قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا، وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا، وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا) [الإسراء:105-109] فالقرآن الكريم ليس كتاباً في الفيزياء أو الكيمياء أو الفلك أو غير ذلك من المجالات العلمية الطبيعية، كما أنه ليس بكتاب تاريخ ولا أدب ولا علوم إنسانية، بل هو في المقام الأول كتاب هداية استَعمل لغة العرب بما فيها من فنونٍ وأساليبَ بيانٍ وبلاغةٍ، وهو يشتمل في بعض آياته على معارف علمية وإنسانية وتاريخية قدّمها بأسلوب لغوي فنّي أدبيّ لا بالأسلوب العلمي، والغَرض من ذِكرها وبهذا الأسلوب حثّ الناس على التفكّر والتدبّر فيها مُقرِناً ذلك بإثارة مشاعرهم وأحساسيسهم الفطرية العميقة وهزّ ضمائرهم لعلّهم يهتدون.. ومن هنا أخطأ الملحدون وأضرابُهم فيما أثاروه من إشكالات على بعض الآيات القرآنية تحت عنوان أنها أخطاء علمية، ونحن ندعوهم إلى إعادة قراءتها والتدبّر فيها من جديد ضمن هذا الإطار إن كانوا منصفين.