خطبة الجمعة 5 جمادى الأولى 1440: الشيخ علي حسن : الخطبة الأولى: علم التفاوض


- قال تعالى: (وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ) [سبأ:24].
- في القرآن أكثر من مشهد للتفاوض، بعضه يرتبط بموقف قريش من النبي (ص) في العهد المكي، والذي قد يصل إلى موقف حدّي كالذي جاء في سورة الكافرون، فقد روي أنه: (لقي الوليد بن المُغيرة، والعاص بن وائل، والأسود بن المطّلب، وأميَّةُ بن خلف، رسولَ الله، فقالوا: يا محمد، هلمّ فلنعبدْ ما تَعبد، وتَعبُدْ ما نَعبد، ونُشركك في أمرِنا كلِّه، فإنْ كان الذي جئتَ به خيراً مما بأيدينا، كنّا قد شَرِكناك فيه، وأخذنا بحظِّنا منه؛ وإنْ كان الذي بأيدينا خيراً مما في يديك، كنتَ قد شَرِكتَنا في أمرنا، وأخذتَ منه بحظّك، فأنزل الله: [قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ]).
- وبعضه يرتبط بأهل الكتاب في العهد المدني: (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ) هنا تم تحديد أرضية مشتركة للتفاوض (أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) [آل عمران:64].
- وفي السيرة النبوية أكثر من مشهد للتفاوض، من بينها ما جرى في أجواء صلح الحديبية.
- وفي سيرة أمير المؤمنين علي (ع) صور من التفاوض في أجواء حروبه الثلاثة، الجمل وصفين والنهروان، وبعضها مذكور في شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد، فمن أحب فليراجع.
- وعموماً، فقد عرفت البشرية المفاوضات منذ القدم كوسيلة للتفاهم والتوافق والوصول إلى حلول سياسية وسط، أو لإيقاف حرب، أو في قضايا اجتماعية، أو دينية، أو غير ذلك.
- ولكن ظهر الاهتمام بالتفاوض خلال العقود الأخيرة كعِلم وتخصّص ونظريات تُدرَّس في المعاهد والجامعات، وتقام لها دورات خاصة يشارك فيها السياسيون ورجال الاقتصاد.
- وتم تعريف علم التفاوض بأنه: (العلم الذي يهدف إلى الكشف عن أفضل الوسائل لتكوين أرضيات مشتركة والتفاهم الفعّال بين الأفراد، بالرغم من اختلافهم الثقافي أو السياسي أو العقدي، وذلك من أجل تجنب المشاكل والصراعات، أو لوضع حدّ لها والخروج منها).
- وهذا العلم تكاملي، لأنه يستمد أسسه ومفاهيمه من عدّة علوم، كعلم الاجتماع، وعلم النفس، وعلم اللغويات، والإدارة، والعلوم السياسية، والعلاقات الدولية، والاقتصاد. والتاريخ.
- وهو أيضاً فنّ، لأنه يعتمد على مهارات وكفاءات شخصيّة خاصة، كالقدرة على المناورة، والحوار، وعملية التواصل، وتقبّل الآخر، وغير ذلك.
- ولا نحتاج لكثير جهد حتى نوضّح مدى أهمّية هذا العلم في واقعنا المعاصر، وذلك في ظل كل هذه الحروب، والأزمات السياسية والإنسانية التي يشهدها العالم، وبالنظر إلى أن الارتجالية ما عاد لها محلّ في وسط عالَم يُدار من خلال الدراسات الاستراتيجية والإحصائيات والخطط العشرية .. إلخ.
- وقد ظهرت الكثير من الدراسات والأعمال البحثيّة والأدبيات النظريّة التي تعالج هذا الموضوع.. حتى أن جامعة هارفارد الأمريكية أصدرت سلسلة دراسات حول تنمية مهارات التفاوض على مستوى طلاب الجامعات والمدارس الثانوية، باعتباره من دعائم العمل بروح الفريق الواحد، والذي بدوره يمثّل جوهر الأعمال التنمويّة لأي بلد.
- ومِن أهم مَن تخصص في هذا المجال: الدكتور (روجر فيشر) (1922-2012)، باعتباره مؤسس مشروع المفاوضات بجامعة هارفارد، وقد قدّم نظريته الخاصة حول العناصر والأسس السبعة للمفاوضات... فما هي؟ وكيف انتبه أحد المهتمّين بهذا الشأن إلى تأسيس أمير المؤمنين علي (ع) لهذه العناصر من قَبل؟ هذا ما سأتناوله في الخطبة الثانية بإذن الله تعالى.