خطبة الجمعة 21 ربيع الثاني 1440: الشيخ علي حسن : الخطبة الثانية: انتحار مسئول فاسد

- عندما كنت طفلاً، كنت أنظر في السماء التي كانت أصفى مما هي عليه اليوم بكثير بسبب التلوّث، فأرى النجوم والكواكب اللامعة وكأنها مبعثرة في كل جهة، ولكن بقليل من التمعّن تترتّب الأشكال كما تعلمناها.. الدب الأكبر، العقرب، الدلو.. إلخ.
- وبفضل الحصى المتطاير في شوارعنا، أصبحَت الزجاجة الأمامية لسيارتي – بعد الأمطار الأخيرة - شبيهة بتلك السماء.
- ولأنني من سكان المنطقة العاشرة، فمعاناتنا أشد من معاناة الآخرين، بسبب إهمال المسؤولين للمنطقة، ولبُعد الموسم الانتخابي لمجلس الأمة.. نتأمّل أن يُحلّ المجلس قريباً، كي تتعاضد جهود المسؤولين والمرشّحين ليبدأ كشط الطرقات على الأقل.. ولا أقول إعادة رصفها.
- وقد شهدنا في هذه الأيام تغييراً وزارياً آخر عندنا في الكويت.. ولا شك أن واحدة من أهم الملفّات التي تُثار مع كل تغيير وزاري، وكذلك في كل موسم انتخابي هو ملف (الفساد).
- مشكلة الحصى المتطاير نموذج من إفرازات الفساد في العالم الثالث عموماً، والتي مهما تغيّرت حكوماتها، ومهما تعاقب على وزاراتها شخصيات وطنية ومختصّة، فستبقى المشكلات حاضرة، لأنها لا ترتبط – دوماً - بشخوص الوزراء، بل بالفساد المتجذّر في الوزارات.
- كتاب (مِن العالم الثالث إلى الأول.. قصة سنغافورة 1965-2000) لرئيس وزراء سنغافورة الأسبق والأب الروحي لدولتها الحديثة السيد (لي كوان يو) فيه التفاتات ونصائح عملية حول أسلوب معالجته لملف الفساد، وقد تحدثت قبل عدة سنوات عن تجربته، وكيف استطاع أن ينهض ببلده في نقلة نوعية مشهودة.. وفي هذا الكتاب ملاحظات مهمة في هذا المجال.
- في الفصل 12 من الكتاب وتحت عنوان (الحفاظ على الحكومة نظيفة اليد) تحدَّث المؤلف حول كيفية معالجته لملف الفساد طوال 41 سنة، بدءً من رئاسته لمجلس الوزراء عام 1959 إلى استقالته عام 1990، ثم عمله كمستشار للدولة إلى عام 2000.
- بحسب – لي كوان يو - الخطوة الأولى لمعالجة هذا الملف تبدأ من مرحلة الانتخابات.. وإن اختلفت أحياناً طريقة تشكيل الحكومات في العالم الثالث، حيثُ لا تُشكَّل من قبل الحزب الفائز فيها، ولكن الفكرة التي سيطرحها مشتركة.. لاحظ كلامه التالي:
- (مصدر الشر هو التكلفة المرتفِعة للانتخابات وللمنصب السياسي، التي تجعل حتماً مرحلة ما بعد الانتخابات هي مرحلة لاستعادة المال الذي تمَّ صرفُه للحصول على المنصب، وتجهيز مال جديد للحملة المقبلة، عبر استغلال النفوذ والتقرّب من الوزراء، والتأثير عليهم، وبيع الصفقات العمومية، والتوسط لدى المسؤولين الحكوميين، لِلَيِّ عنقِ القانون لصالح رجالِ أعمالٍ فاسدين، عادةً ما يكونون ذوي كفاءات متدنِّية يعوّضونها بتوسيع الفساد والإفساد).
- ثم يتحدّث عن القوانين التي تمّ سنّها لمكافحة الفساد، وعن الصرامة في التنفيذ والمتابعة، وقدّم عدداً من الشواهد على ذلك، ومن بينها ما جرى عام 1986، والذي عبّر عنه كالتالي:
- (أما السقوط المدوّي الأكثر درامية فكان الذي أصاب وزير التنمية الوطنية آنئذ).
- القصة أن هذا الوزير استلم مبلغين من المال، قيمة كل منهما 400 ألف دولار، لتنفيع إحدى الشركات وأحد الأثرياء على حساب المال العام، فحاول من خلال علاقاته الشخصية أن يوقف الإجراءات ضدّه دون نتيجة، ثم حاول اللقاء برئيس الوزراء الذي رفض بدوره ذلك إلى أن تنتهي التحقيقات، فما كان من ذلك الوزير إلا أن انتحر وقد كتب رسالة لرئيس الوزراء جاء فيها:
- (تملّكَني شعور شديد بالأسى والاكتئاب. أحسست أنني مسؤول عن هذا الحدث المشؤوم، وعليّ تحمُّل المسئولية كاملة. وبوصفي رجلاً شرقياً نبيلاً وشريفاً، أشعر أنّ من الحق أن أُنزِل بنفسي العقوبة القصوى على خطئي).
- ولما زار رئيس الوزراء زوجةَ المنتحر طلَبت منه عدم إجراء تحقيق في سبب الوفاة حفاظاً على شرفه، وتقديراً لخدماته للحكومة، فبيّن لها أن ذلك ليس ممكناً.
- ولما أثبتت الفحوصات أنه قد انتحر، شُكِّلت لجنة تحقيق وانتهت إلى إثبات تهمة الرشوة.
- ثم علّق لي كوان يو قائلاً: (مِن السهولة بمكان البدء – نظرياً – بمعايير أخلاقية سامية، وقناعات قوية راسخة، وتصميم أكيد على القضاء على الفساد، لكنْ مِن الصعب البقاء على مستوى هذه النوايا الصافية إلا إذا امتلك الزعماء ما يكفي من القوة والتصميم على التعامل مع المخالفين ومنتهكي القانون بدون أية استثناءات. ولابد مِن دعم مسؤولي مكتب التحقيق دون خوف أو محسوبية لتطبيق القواعد والأنظمة).
- أتمنّى أن يُجعل هذا الكتاب مقرراً دراسياً لكل مرشّح لوزارة أو لموقع نيابي.
- إنّ الصرامة في تنظيف أية حكومة في العالم الثالث من العناصر الفاسدة، مهما كان المنصب الذي يحتلّه الشخص، مِن أهم وسائل نشر روح المسئولية والخوف من الوقوع في عار المذلة والعقوبة، وإشاعة ثقافة عامة بأن الفساد لا مستقبل له مهما كان المنصب الذي يشغله ذلك الفاسد، مستذكرين قول النبي (ص): (إِنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ قَبْلَكُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سَرَقَ فِيهِمْ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ، وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمْ الضَّعِيفُ أَقَامُوا عَلَيْهِ الْحَدَّ).. فهل سيرتقي أداءُ حكوماتِ وبرلمانات العالم الثالث إلى المستوى الذي نشهد معه في يومٍ ما مسئولاً حكومياً أو نائباً فاسداً ينتحر خوفاً من العار؟