خطبة الجمعة 21 ربيع الثاني 1440: الشيخ علي حسن : الخطبة الأولى: الجيرة - 2


- ذكرت في الأسبوع الماضي أن الإسلام نظّم علاقة الجِوار في ثلاثة أبعاد، البُعد التشريعي، والأخلاقي، والأدبي.. وأن البُعد التشريعي يتعلّق بالحدّ الأدنى من صورة العلاقة، وأن الأرقى أن تتم عملية بناء العلاقة على أساس أخلاقي وأدبي أيضاً.
- ومن هنا، نجد أن الإمام زين العابدين (ع) ينتقل بعد المقطع الأول من دعائه إذا ذكر جيرانه وأولياءه، ليُبيّن المسئوليات التي تقع على عاتقه تجاههم فيقول: (واجْعَلْنِي - اللَّهُمَّ - أَجْزِي بِالإحْسَانِ مُسِيْئَهُمْ، وَأعْرِضُ بِالتَّجَاوُزِ عَنْ ظَالِمِهِمْ).
- من طبيعة الاحتكاك بين البشر، وقوة الأنا، والتنافس على المُلكية، ووقوف الشيطان بالمرصاد، أن تقع بينهم الخلافات والنزاعات، وما يترتّب عليها من إساءات على مستوى الكلمة أو الفعل.. وما يستتبع ذلك كله من ردود فعل أيضاً.
- واحتمال وقوع ذلك بين الجيران احتمال قوي، وذلك بلحاظ القرب وزيادة حالات الاحتكاك
والتفاعل، مهما سعى الإنسان أن يُحسن اختيار الحي الذي يسكن فيه.
- وقد ورد ذمٌّ شديد بحق مثل هذا النموذج من الجيران، ففي بحار الأنوار أنه: (قيل لرسول الله (ص): إن فلانة تصوم النهار وتقوم الليل وهي سيئة الخلق تؤذي جيرانَها بلسانها، فقال: لا خير فيها، هي من أهل النار).
- بل إن هناك نموذجاً من الجيران مَن تكون إساءاتهم سبباً لانتقال الإنسان من مسكنه، وفي الحديث النبوي: (إن شرَّ الناسِ عند اللهِ منزلةً يومَ القيامةِ: مَن تركَه الناسُ اتِّقاءَ شرِّه).
- من هنا بدأ الإمام (ع) دعاءه بفرض صدور الإساءة من الجيران.. والموقف الشرعي قد يُعطيك الحق أن تردّ الإساءة بمثلها، وأن تدفع الظلم عن نفسك بالشكوى إلى السلطات مثلاً.
- قال تعالى في وصف المؤمنين: (وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ، وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا...... وَلَمَنْ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ) [الشورى:39-41].
- ولكن الموقف الأخلاقي هو الأرقى، والمتمثّل في التالي: (واجْعَلْنِي - اللَّهُمَّ - أَجْزِي بِالإحْسَانِ مُسِيْئَهُمْ، وَأعْرِضُ بِالتَّجَاوُزِ عَنْ ظَالِمِهِمْ).
- وهذا هو الموقف المتناغم مع تتمة الآية السابقة: (وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) أي لا يحب الذين يبدأون بالإساءة، والذين يبالغون في ردود أفعالهم عند ردّ الإساءة بمثلها (... وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) [الشورى:40-43].
- وفي الحديث النبوي: (ما مِن جُرعةٍ أعظمُ أجراً عند الله مِن جُرعةِ غيظٍ كظَمها عبدٌ ابتغاء وجه الله).. هذا جارك، وستلتقي معه وجهاً بوجه.. يومياً.. ولربما طوال حياتك القادمة.. فهل تُحب أن يمغصُك بطنُك ويكفهرُّ وجهُك ويفسُدَ عليك يومُك كلَّما رأيتَه؟
- أرِح نفسّك وانزع فتيل هذه المشكلة وما قد يستتبعها من أزمَات ومشكلات بالعفو والتجاوز.
- نعم، قد يجرّب الإنسان ذلك مرة ومرّتين وثلاثاً، ثم يجد أنّ مثل هذا الموقف شجّع هذا الجار اللئيم وزاده جُرأة وإساءة وظُلماً.. هذا موضوع آخر.. وقد روي عن الإمام علي (ع) أنه قال: (العفو يُفسد من اللئيم بقدر ما يُصلِح مِن الكريم).
- ولنا وقفة أخرى بإذن الله مع تتمة لهذا الموضوع.