خطبة الجمعة 14 ربيع الثاني 1440: الشيخ علي حسن : الخطبة الأولى: الجيرة - 1

- الدعاء السادس والعشرون من الصحيفة السجادية مخصص للجيران والأولياء إذا ذَكَرهم، ويبدأ فيه كالتالي: (اللَّهُمَّ صَـلِّ عَلَى مُحَمَّد وَآلِـهِ، وَتَـوَلَّنِي فِي جيرَانِي وَمَوَالِيَّ وَالْعَـارِفِينَ بحَقِّنَا، وَالْمُنَـابِذِينَ لِأعْدَائِنَا، بِأَفْضَلِ وَلاَيَتِكَ، وَوَفِّقْهُمْ لإقَامَةِ سُنَّتِكَ، وَالأخْذِ بِمَحَاسِنِ أَدَبِكَ).
- شبكة العلاقات الاجتماعية تتفرّع في عدة اتجاهات، ومن بينها الجِيرة والذي لأهمّيته ذُكر في القرآن الكريم ضمن هذه الوصايا الإلهية: (وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ...) [النساء:36].
- أي سواء أكان الجار من أقربائك كما كان هو المعهود في تكوين الأحياء العربية في الماضي، أم لا.. أو سواء أكان الجار قريباً أم بعيداً.. وكلُّ مَن كان يصدق عليه عُرفاً أنه جار، سرَت عليه هذه الوصية الإلهية... والتحديد بالأربعين في بعض الروايات قد يكون كناية عن الكثرة، أو كرقم تقريبي ضمن تصميم الأحياء في ذلك الزمان، وفي الاتجاهات المختلفة.
- وتم تنظيم علاقة الجِوار في الإسلام في ثلاثة أبعاد، البُعد التشريعي، والأخلاقي، والأدبي.
- البُعد التشريعي يهتم بمجموعة من القوانين المنظِّمة لهذه العلاقة ضماناً لحقوق كل الأطراف، وتجنّباً لحدوث أيّ إخلال فيها، وهذه القوانين بمثابة الحدّ الأدنى في العلاقة بين الطرفين.
- وقد ذكرت في أكثر من مناسبة أن التشريعات الخاصة بالقضايا الاجتماعية تأتي عادةً لبيان الحد الأدنى في العلاقة بين الأطراف، ولا تُعتبر الصورة المُثلى التي يبتغيها الإسلام.
- مثلاً، عندما تأتي سورة البقرة لتبيّن بعض التشريعات حول الإرضاع ودفع المقابل المالي للأم عندما تُرضِع طفلَها، فإنّ هذا لا يعني التشجيع على التعامل المادّي في عملية الإرضاع، بل تأتي لتسنّ القوانين لأسوأ الافتراضات في طبيعة العلاقة التي تحكم بيت الزوجية.
- وإلا، إذا حوّلنا هذه العلاقة إلى ما يُشبه السوق، سلبنا منها بركَتها، وحوّلناها إلى جسد بلا روح.. وهو بمثابة إصدار حُكم موجَّل بالإعدام عليها، وهو من دون شك خلاف الطبيعة الفطرية لها حيث قال (سبحانه): (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) [الروم:21].
- وهكذا الأمر بالنسبة إلى التشريعات الخاصة بحق حضانة الطفل.. فعندما يحدث الطلاق أو النزاعات بين الزوجين، تبرز هذه المسألة بقوة، ويتم توظيفها من الطرفين، فهذا يقول حقّي الشرعي، وتلك تقول حقّي الشرعي.
- والواقع أن الله (عز وجل) يريد للطرفين أن يراعيا في قرارهما مصلحة الطفل، ومصلحتهما أيضاً: (لا تُضَآرَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلاَ مَوْلُودٌ لَّهُ بِوَلَدِهِ)، وهذه المصلحة تستدعي التفاهم على مسألة الحضانة بما يحقق مصلحة الجميع، وتحديد حضانة الأم بسنتين أو بسبع سنوات هو بمثابة الحد الأدنى عند وقوع الخصومة، لا أنه أمر إلزامي يَحرُم تجاوزه عند التوافق.
- هكذا الأمر بالنسبة إلى التشريعات الخاصة بالجيرة، هي تضع الحد الأدنى المنظّم للعلاقة.
- والأرقى من ذلك أن تكون العلاقة مبنية على القِيَم الأخلاقية والمشاعر الإنسانية الفيّاضة بالخير والمحبّة، وعلى الآداب التي تُجمِّل هذه العلاقة.
- أي أننا عندما نتعامل وفق التشريعات إنما نتعامل مع الجسد، ولكن عندما نتعامل وفق الأخلاق والآداب فإنما نتعامل مع الروح ومع القلب ومع المشاعر.
- وستكون لنا وقفات مجدّدة مع موضوع الجوار في الأسابيع القادمة بإذن الله (عز وجل).