خطبة الجمعة 7 ربيع الثاني 1440: الشيخ علي حسن : الخطبة الثانية: أخلاقيات وآداب القضاء

ـــــ ذكرت في الخطبة الأولى أن النصوص الإسلامية تعرّضت لبيان أدقّ التفاصيل التي من شأنها أن تُعين القاضي على تحقيق العدالة ما أمكن، ووسّع فيها الفقهاء. ومن أمثلة ذلك:
1. تنبُّه القاضي إلى حالته النفسية قبل القيام بالقضاء.
ـــــ فعلى سبيل المثال، روت أم المؤمنين أم سلمة أن رسول الله (ص) قال: (من ابتُلي بالقضاء بين المسلمين فلا يقضينّ وهو غضبان).وهذا الخبر يفيد أمرين، الأول أن على الرغم من فخامة موقع القاضي في نظر الناس، وكثرة مغرياتها، إلا أنه يمثّل مسؤولية عظيمة، يجب أن لا ينبري لها إلا من يكون أهلاً لها، وذلك بلحاظ كلمة (ابتُلي) الواردة في الخبر.
ــــ روي عن علي (ع) قوله: (لا ينبغي أن يكون القاضي قاضياً حتى تكون فيه خمس خصال: عفيف، حليم، عالِمٌ بما كان قبله، يستشير ذوي الألباب، لا يخاف في الله لومة لائم).
ـــــ والثاني أن لا يجلس للقضاء إلا في حال اعتدالِ مزاجه، لأن مزاجه الشخصي سينعكس على الحكم الصادر أو على طريقة القضاء.. ولك أن تتخيّل القاضي بسلطته القوية ماذا يمكن أن يصدر عنه إن فقد ذلك الاعتدال النفسي.
ــــ ومن هذا الباب ما روي عن أبي سعيد الخدري أن النبي (ص) قال: (لا يقضي القاضي إلا وهو شبعان ريان).. فالجوع أو سائر العوامل الضاغطة نفسياً قد تدفعه إلى التسرّع وعدم الدقة.
ــــ ولذا قال الشيخ الطوسي: (وكلّ معنى يكون به في معنى الغضبان كان حكمُه حكم الغضبان؛ كالجوع الشديد، والعطش الشديد، والغمّ الشديد، والفرح الشديد، والوجع الشديد، ومدافعة الأخبثين) أي الحاجة للذهاب إلى الحمام (والنعاس الذي يغمر القلب).
ــــ وأضاف الماوردي في كتابه (الحاوي الكبير): (ويقضي وطَرَه مِن الجِماع حتى يَغُضَّ طرفَه
عن الحُرُم، ويَلبسُ ما يستدفِعُ به أذى وقتِه مِن حَر أو برد، ويَفرَغُ مِن مُهمّات أشغالِه لئلا يهتمَّ بما يَشغَلُ خاطرَه عن الاجتهاد في الأحكام).
ــــ وأن تتم مراعاة ذلك في طبيعة المجلس، لما له من أثر على نفسيته. جاء في الموسوعة الفقهية الكويتية: (يُستحب أن يتخذَ القاضي له مجلساً فسيحاً بارزاً مَصوناً مِن أذى حرٍّ وبَرْد، لائقاً بالوقت والقضاء، ويكون مَصوناً أيضاً مِن كلِّ ما يُؤذي مِن الروائح والدُّخَان والغُبار).
2. التفات القاضي إلى البُعد الروحي في مسؤوليته، بحيث لا يقوم بهذه الوظيفة بصورة ميكانيكية، أو على أنها مصدر رزق فحسب.
ــــ ففي (وسائل الشيعة) عن سلمة بن كُهَيل، قال: (سمعت علياً (ع) يقول لشريح: وإياك والتضجّرَ والتأذّي في مجلس القضاء، الذي أوجبَ الله فيه الأجر، ويَحسُنُ فيه الذُّخرُ لِمن قَضى بالحق).
ـــــ وذكر الماوردي من آداب القضاء أن يُصلّي القاضي عند التأهّب للجلوس للقضاء ركعتين، وأن يدعو الله بعدها بما رُوي عن السيدة أم سلمة قالت: (كان رسول الله (ص) إذا خرج من بيته قال: اللهم إني أعوذ بك أن أزِلّ أو أُزَل، أو أضِلّ أو أُضَل، أو أظلمَ أو أُظلَم، أو أَجهلَ أو يُجهلَ عَليّ).
3. إحضار بعض أهل العلم بالأحكام الشرعية ليشهدوا حكمه، فإن أخطأ نبّهوه؛ أو مشاورتهم فيما اشتبه عليه من الأحكام، لأنّ القاضي إنسان، والإنسان محل الخطأ والنسيان.
4. ذكر بعض الفقهاء أنه يُكره للقاضي أن يقف بنفسه مع خصمه عند قاض آخر، فلربما أثّر ذلك على القاضي الآخر مراعاة للزمالة، أو حرجاً، أو لغير ذلك. مستشهدين بتوكيل أمير المؤمنين (ع) لأخيه عقيلاً، أو ابن أخيه عبدالله بن جعفر، في خصومة وقوله: (إن للخصومة قُحْماً) أي مهالك (وإنّ الشيطان ليحضُرُها، وإني لأكرهُ أنْ أحضُرَها).
5. على القاضي أن يسوّي بين الخصمين في الجلوس، فيكون مجلسهما بين يديه، لا عن يمينه ولا عن يساره، لأنه لو فعل، فقد قرّب أحدَهما في مجلسه، ولأنّ لليمين فضلاً عن اليسار. كما ينبغي له أن يسوّي بينها في النظر، والنطق، والخلوة.
6. أن لا يستغلّ وظيفتَه وموقعَه في الحصول على منافع شخصية ولو كانت بسيطة، حتى كرِهَ بعض الفقهاء أن يقوم القاضي بنفسه بالبيع والشراء.
ــــ روي عن أمير المؤمنين (ع): (أنه أتى سوق الكرابيس) نوع من الأقمشة (فقال: يا شيخ، أحسِن بَيعي في قميصٍ بثلاثة دراهم؛ فلما عرَفه لم يشتر منه، ثم أتى إلى آخر فلمّا عرَفه لم يشتر منه، فأتى غلاماً حدثاً فاشترى منه قميصاً بثلاثة دراهم]).
ـــــ لقد روي عن علي أمير المؤمنين (ع) أنه قال: (العدلُ حياةُ الأحكام) وقال: (ما عُمِّرَت البلدانُ بمثلِ
العدل)، فعلى العدل ترتكز ضمانة الثقة بالقضاء، وبهذه الثقة تبقى الحياةُ نابضةً في حركة الناس في المجتمع؛ فمتى ما انعدمت الثقة بالعدالة الاجتماعية، لاسيّما في جهازٍ أساسيٍّ كالقضاء، دبَّ الموت في أوصال المجتمع اقتصادياً وسياسياً واجتماعياً. ومن هنا نُدركُ الغايةَ وراء كلِّ هذا الحرص وهذه الدقّة في المنظومة الشرعية الأخلاقية الأدبية الخاصة بنظام القضاء في الإسلام، لأن التهاون فيها يعني الحُكمَ على المجتمع بالإعدام ولو بعد حين.