خطبة الجمعة 29 ربيع الأول 1440: الشيخ علي حسن : الخطبة الثانية: كيف نفهم القدَر؟


ـــ (قَالَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا، وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَىٰ مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا) [الكهف:67-68].
ــــ من ضمن الرسائل التي تحملها هاتان الآيتان الشريفتان والآيات المتعلّقة بها ضمن قصة موسى (ع) والعبد الصالح الذي رافقه، رسالة حول موقفنا ــــ في كثير مِن الأحيان ــــ مِن القَدَر، وكيف نفهم القدر؟
ــــ بالإضافة إلى تلك القصة القرآنية، هناك قصة رمزية تقول أن طفلاً كان يلعب في مرج أخضر مليء بالورود والحشائش الخضراء. وذات يوم تفاجأ الطفل وهو يرى أباه يحرث ذلك المرج ويقلّبه ويقضي على صورته الجميلة.
ــــ احتجّ الطفل على أبيه، فاستمهله إلى أن يرى كيف ستصبح الأرض بعد أن يلقي فيها البذور ويسقيها.. وفعلاً بدأت سنابل القمح الذهبية تُزيّن المكان وتتراقص مع نسمات الهواء.
ـــ من جديد، جاء الأب ودمّر تلك الصورة الجميلة، حين بدأ يحصد السنابل الذهبية.
ـــ ارتفع صوت الطفل محتجّاً، فاستمهله الأب إلى أن يرى كيف سيُخرِج من تلك السنابل حبات القمح الذهبية.
ـــــ وهذا ما كان.. فإذا بأكوام ذهبية متراكمة من حبوب القمح التي صار الطفل يلهو بها.
ــــ ولم يصبر الأب كثيراً حتى جاء وطحن تلك الحبوب الذهبية وحوّلها إلى ما يشبه التراب الأبيض.. وارتفع صوت الطفل من جديد محتجاً.
ــــ فتقدّم منه الأب وناوله أنواع المخبوزات الشهية من ذلك الطحين، وقال له: هل أدركت الآن ـــ يا بني ـــ ما جرى؟
ــــ مسألة القدر من المسائل الحساسة والشائكة.. وعبر التاريخ، توقّف الإنسان كثيراً أمام هذه المسألة في محاولة لتفسيرها وفهم خباياها... وظهرت على إثر ذلك مدارس فلسفية متعددة.
ــــ وحتى عندما قدّم الإسلام تفسيراً إجمالياً لها، ظهرت مذاهب كلامية متعددة بناء على الاختلاف في تفسير المسألة! أو تمايزت فيما بينها بجملة من الأمور، ومن بينها هذه المسألة.
ـــ ولذا عندما تُراجع معتقدات تلك المذاهب كالقدرية والجَهْمِيّة والجبرية والمعتزلة والأشاعرة والماتريدية، ستجد أن مسألة القدَر في واجهة المسائل الخلافية فيما بينها.
ــــ قد لا نستطيع أن نفهم هذه المسألة بعمق، وتبقى بعض الأسئلة عالقة في أذهاننا، ولكن القرآن الكريم ينبّهنا إلى بعض العناوين الكلية فيما لو أردنا التعاطي مع هذه المسألة.
ــــ فمما يُلفت الانتباه في قصة موسى (ع) والعبد الصالح أنها بدأت هكذا: (فَوَجَدَا عَبْدًا مِّنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا) [الكهف:65].
ـــ أي أن كل تلك التصرّفات التي قام بها ذلك العبد الصالح واحتجّ عليها موسى (ع) من خَرق
للسفينة وقتل للطفل وبناء للجدار، لن تخرج من إطار الرحمة الإلهية والعلم الإلهي.
ــــ وهكذا هو القَدَر الإلهي.. لا يمكن أن يكون إلا رحمةً وناشئاً عن علم إلهي بما قد خفي عنّا.
ــــ جَهْلُنا بما وراء الأمور هو الذي يجعلنا نحتجّ ونستغرب ونستهجن، ولربما يصل بالبعض إلى حد الكفر بالله، متسائلين: أين الله من كل هذا الظلم والجرائم والفواجع التي تحدث على وجه الأرض؟
ـــــ وهي تساؤلات منطقية ناشئة عن جهل الإنسان بالغيب وبما خفي عنه: (وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَىٰ مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا).. ولنتذكّر أن العبد الصالح لم يُخبر موسى ولا أصحاب السفينة ولا والدي الطفل ولا أصحاب الجدار بالسرّ وراء ما فعل.
ـــ ما الذي يعوّض جهلَنا بالغيب وما وراء الأحداث؟
ــــ ثقتنا بأن الله رحيم.. حكيم.. عليم.. قدير.. عَدل.
ــــ من الدروس التي تعلّمها موسى (ع) في هذه الرحلة أن يمتلك مثل هذا المستوى من الثقة برحمة الله وحكمته وقدرته وإحاطته بالأمور، ومن خلال ذلك يتحقق الرّشد والنّضج والوعي للإنسان: (قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا) [الكهف:66].
ــــ موسى (ع) خسر كل الامتيازات التي كان يتمتّع بها في مصر، مكانة ونفوذ ومال وراحة وثراء، وخرج منها إلى الصحراء خائفاً يترقّب، وصار مطلوباً أمنياً.
ــــ ولعله (ع) تساءل في تلك اللحظات.. لماذ يا ربّ؟ أهذا جزاء دفاعي عن المظلوم؟
ــــ وإذا بكل هذه الأحداث في ظاهرها السلبي تحمل خيراً لفتاتين ضعيفتين عند بئر ماء، فقد كفاهما موسى مدافعة الرجال ورعي الأغنام منذ تلك اللحظة وإلى عشر سنين قادمة، وصار ذلك سبباً لمساعدة والدهما المؤمن الكبير في السن، وأن يتزوّج موسى بفتاة مؤمنة موحِّدة، وأن تكون تلك السنوات مقدِّمةً ضرورية تَهيّأ من خلالها ليُبعَثَ نبياً ورسولاً.
إنَّ عجزَنا عن فهمِ حقيقةِ القدَر فلسفياً، وتفسير مجريات الأمور عملياً، لا ينبغي أن يُخرجَنا من حالة الرضا بقضاءِ الله وقدَرِه، والعملِ طبقاً لذلك، لأنّ إيمانَنا بالله سبحانه ينبغي أن يتضمن الإيمان بأنّ كلَّ الأمور إنما تجري بعينِ الله، وأن الله حكيمٌ قَديرٌ عَدلٌ، وما أبلَغَ الوصفَ الواردَ في دعاء الافتتاح وهو يتحدّث عن حال الإنسان حين يَعتِب على القدَر: (فَإنْ أَبْطأ عَنِّي عَتِبْتُ بِجَهْلِي عَلَيْكَ، وَلَعَلَّ الَّذِي أَبْطَأ عَنِّي هُوَ خَيْرٌ لِي لِعِلْمِكَ بِعاقِبَةِ الاُمُورِ، فَلَمْ أَرَ مَوْلىً كَرِيماً أَصْبَرَ عَلى عبْدٍ لَئِيمٍ مِنْكَ عَلَيَّ يارَبِّ).