خطبة الجمعة 15 ربيع الأول 1440: الشيخ علي حسن : الخطبة الثانية: الصادقان في مواجهة الخرافة

ــــ قال تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ) [الأنبياء:107].
ــــ الخرافة قد تكون تاريخية، من قبيل الحق التاريخي للإسرائيليين في أرض فلسطين.. أو علمية من قبيل أن الأرض مسطحة.. أو اعتقادية من قبيل أن الرقم 13 يجلب النحس.. وغير ذلك.
ــــ إلا أن الخرافة المرتبطة بالدين أشدّ تلك الأنواع خطورة من حيث نتائجها المصيرية.
ـــــ فنحن كمسلمين نؤمن بالآخرة، وأن الحياة الدنيا بالنسبة إلى الإنسان مجرد محطة للعبور، ومن خلالها يُحاسَب إيمانياً وسلوكياً، فيُنعَّم أو يُعذَّب.
ــــ ولو تشاءم شخص من الرقم 13، فلم يكتبه ضمن أرقام مصعد العمارة مثلاً.. أو طرق على الخشب خوفاً من تأثير العين.. أو رش الملح بطريقة معينة لطرد الحظ السيء.. فإنه لم يرتكب بذلك ما يستوجب العقاب الأخروي.
ــــ ولكن أن يتخيّل وجود آلهة شريكة مع الله، فيعبدها، فهنا تبدو خطورة الخرافة المرتبطة بالدين، لأن المسألة حينئذ سترتبط بمصيره الأخروي.
ـــ والسؤال: كيف تنشأ الخرافة لتتحول إلى دين؟
ــــ الإنسان بحسب فطرته يبحث عن علل الأشياء، وعن الحقيقة، ولكن قوة الخيال لديه قد تحرفه عن ذلك.. فهذا الماشي في الصحراء في ليلة مظلمة قد يسمع صوتاً أو يشعر بحركة مريبة، يمتزج عنده الخوف والقلق مع الخيال، فيتصوّر وجود ما لا حقيقة له.
ــــ وهنا تظهر الكائنات الخرافية في تصوّرات الناس.. الغول.. الأرواح الشريرة.. السعلاة.. وحين يتكرر الموقف، أو يسترجع الحدث، أو يحكيه إلى الآخرين، فد يتحوّل لديهم إلى حقيقة أيضاً.
ــــ الرغبة في دفع ضرر هذه الوجودات أو عموم المؤثِّرات الوهمية، قد تدفع الناس إلى ابتكار سلوكيات ووسائل من قبيل: تعليق حدوة حصان، أو عين زرقاء، أو رش الملح، وأمثال ذلك، لتظهر بذلك السنن والعادات الخرافية.
ـــــ والأسوأ أن تصبح بظن البعض جزء من الدين، وأن تتحول بعض الوجودات التي يصوّرها خيالُنا إلى قوى عُظمى مؤثّرة في اعتقاد الإنسان، وهي الآلهة، ثم يتقرب إليها الإنسان بالعبادة.
ــــ جانب من كون بعثة النبي (ص) رحمةً للعالمين، هي دعوته إلى الإيمان بالحقائق القائمة على الأدلة، ورفض ما هو وهم، وعدم اتباع الظن ما لم يرتَقِ بالدليل إلى مرتبة العلم والحقيقة: (وَمَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا) [النجم:28].
ــــ وذلك لما لهذه الخرافات من أثر أخروي من جهة، وأثر دنيوي من جهة أخرى، ويتمثّل في الإصر والأغلال التي تُثقِل حركة الإنسان في الحياة وتربكها وتقيّدها.
ــــ في ارتباط الإنسان بالفلك ـــ على سبيل المثال ـــ لدينا علم الفلك Astronomy، ولدينا التنجيم Astrology .. موقف الإسلام من الأول إيجابي. قال تعالى: (أَوَلَمْ يَنظُرُواْ فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللّهُ مِن شَيْءٍ) [الأعراف:185].
ـــ أما بالنسبة إلى التنجيم، والذي كان شائعاً في ذلك الوقت، فالموقف على العكس تماماً.. وقد روي عن ابن عباس أنه قال: (بَيْنَمَا رَسُولُ اللَّهِ (ص) جَالِسٌ فِي نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ إِذْ رُمِيَ بِنَجْمٍ فَاسْتَنَارَ) أي شاهدوا في السماء شهاباً أو نيزكاً أعقبه انفجار ضوئي (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (ص): «مَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ لِمِثْلِ هَذَا فِي الجَاهِلِيَّةِ إِذَا رَأَيْتُمُوهُ»؟ قَالُوا: كُنَّا نَقُولُ: يَمُوتُ عَظِيمٌ أَوْ يُولَدُ عَظِيمٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (ص): «فَإِنَّهُ لَا يُرْمَى بِهِ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلَا لِحَيَاتِهِ»).
ــــ ولما توفي ابنُه إبراهيم، صادف أن انكسفت الشمس، فتحدّث البعض عن ارتباط هذا بذاك، وكان بإمكانه (ص) أن ينتهز الفرصة لصالحه، لتعظيم مكانته، ولكنه لم يفعل بل بادر: (حِينَ سَمِعَ ذَلِكَ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: «أَمَّا بَعْدُ، أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لا يَنْكَسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلا لِحَيَاةِ أَحَدٍ، فَإِذَا رَأَيْتُمْ ذَلِكَ فَافْزَعُوا إِلَى الْمَسَاجِدِ»).
ـــ اليوم يرى البعض أنه لا مانع من الاستفادة من الخرافة والأفكار الجاهلية لمصلحة الدين.. إلا أن تصرّف النبي (ص) السابق أبلغ ردٍّ على ذلك، لأن السكوت عنها أو توظيفها سيترك آثاراً عميقة قد لا تُجبَر.
ــــ ولنلاحظ أن ذلك التنجيم تحوّل في التاريخ إلى إيمان بألوهية تلك الأجرام السماوية، فعبدوا الشمس والقمر والزهرة وغيرها.
ـــ لم يرَ النبي (ص) مشروعيةً في أن يتم توظيف جهل الناس لحساب الدين، بل كان يعمل على تحريرهم من الجهل: (وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ).
ــــ ومن أنواع المعتقدات الخرافية التي كانت ولا زالت سائدة في التأثير الفلكي على ما يجري للناس، ارتباطها بسعادة الأيام والأزمنة ونحوستها.. فالقمر في مسير حركته يقترن كل فترة بمجموعة من النجوم المتقاربة التي تشكّل رسمة تخيّلية تشبه العقرب، فيقولون (القمر في العقرب). فإذا دخل القمر في برج العقرب ــ مثلاً ـــ فإن الشروع بأي عمل يكون نحساً.
ــــ وقد روي أن رجلاً سأله (ص): (أَيَّ يَوْمٍ أَحْتَجِمُ؟ قَالَ: «الأَيَّامُ كُلُّهَا لِلَّهِ»).
ــــ هذه هي القاعدة في النظرة إلى الزمن.. وللأسف فإنّ هذه المعتقدات الخرافية الجاهلية تحوّلت أحياناً وبالوضع والدّس إلى روايات عن الأئمة (ع)، لتتحوّل بعد ذلك إلى مفردة من المفردات الدينية، على الرغم من أن موقفهم الحقيقي (ع) لم يختلف عن موقف النبي (ص).
ـــ لاحظ هذه الرواية عن الإمام الصادق (ع) والتي تبيّن موقفه من قضية التنجيم والتأثيرات الفلكية في جلب السعادة والشقاء، والخير والشر.. في الكافي قال (ع): (كان بيني وبين رجل قسمة أرض، وكان الرجل صاحب نجوم وكان يتوخّى ساعة السعود فيخرج فيها وأخرج أنا في ساعة النحوس، فاقتسمْنا فخرج لي خيرُ القسمين، فضرب الرجل بيده اليمنى على اليسرى، ثم قال: ما رأيت كاليوم قط! قلت: ويك؟) من المحتمل أن كلمة قال التالية وضعت في المكان الخطأ: (ألا أخبرك ذاك؟ قال: إني صاحبُ نجوم أخرجْتك في ساعة النحوس، فخرجْت أنا في ساعة السعود، ثم قسّمنا، فخرج لك خيرُ القسمين فقلت: ألا أحدثك بحديث حدثني به أبي (ع) قال: قال رسول الله (ص): مَن سرَه أن يدفع الله عنه نحس يومه) أي الشر المحتمل وقوعه في ذلك اليوم، لا من خلال تأثير الكواكب والنجوم (فليفتتح يومه بصدقة يذهب الله بها عنه نحس يومه، ومن أحب أن يذهب الله عنه نحس ليلته فليفتتح ليلته بصدقة، يدفع الله عنه نحس ليلته. فقلت: إني افتتحت خروجي بصدقة، فهذا خير لك من علم النجوم).
ـــ وروى الحسن بن مسعود، ولعل الأصح الحسن بن سعيد الأهوازي: (دخلت على أبي الحسن علي بن محمد (ع) وقد نكبت إصبعي، وتلقاني راكب وصدم كتفي، ودخلت في زحمة فخرقوا عليّ بعضَ ثيابي، فقلت: كفاني الله شرّك مِن يوم، فما أيشمك. فقال (ع) لي: يا حسن، هذا وأنت تغشانا ترمي بذنبك مَن لا ذنب له؟ قال الحسن: فأثاب إليّ عقلي، وتبيّنتُ خطأي، فقلت: يا مولاي، أستغفر الله. فقال: يا حسن، ما ذنب الأيام حتى صرتم تتشئمون بها إذا جوزيتم بأعمالكم فيها؟ قال الحسن: أنا أستغفر الله أبداً، وهي توبتي يا ابن رسول الله...... قال (ع): لا تَعُد، ولا تجعل للأيام صُنعاً في حكم الله، قال الحسن: بلى، يا مولاي).
ـــ في المقابل نجد نصوصاً عديدة تتحدّث عن ترغيب النبي (ص) وآله (ع) في التفاؤل، لما له من أثر نفسي إيجابي، وتحفيز على الجِد في العمل.. كان النبي (ص) يتفاءل مثلاً بالأسماء ذات الدلالات الجميلة، ويعلّق على ذلك علناً ليعزز الدافعية في نفوس أصحابه.
ـــ هذا لا يعني أن لاسم ذلك الشخص مدخلية في النتائج الإيجابية التي قد تترتب، بل توظيف الانفعال النفسي الإيجابي في تحقيق أو تعزيز الدافعية لديه ولدى الآخرين.
ــــ في سنة 1998 تم تأسيس علم النفس الإيجابي Positive Psychology على يد عالم النفس مارتن سيليغمان، والذي يركز على دراسة مواطن القوة والإبداع، ودور الخصائص الإنسانية الإيجابية مثل الرضا، والتفاؤل، والعفو، والتسامح، والأمل، والإيثار... إلخ في تحقيق وتعزيز السعادة الشخصية للفرد، وتحسين جودة حياته، وزيادة فعالية المؤسسات بصفة عامة.
ــــ وقد توصل المختصّون في هذا المجال إلى أن تمتّع العاملين بالتفاؤل والأمل يمنحهم:
1. قدرة أكبر على أداء وإكمال مهامهم الوظيفية بصورة أفضل.
2. الشعور بالرضا والسعادة والالتزام في العمل، والصمود أمام العقبات والضغوط.
3. القدرة على ضبط النفس، وبالتالي التركيز المستمر في أداء الأعمال.
4. التفكير المستقبلي الذي يدفعهم إلى الأمام لأداء مهام أكبر والنمو والازدهار والإنتاجية.
5. صحة نفسية أفضل.
ـــ لقد جاء في وصف القرآن الكريم لرسول الله (ص) أنه الذي: (يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ) ثم أعقب ذلك بالثناء على الذين (آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)، وهذا يعني أن مِن مسئوليتنا كمؤمنين بهذه الرسالة أن نعمل على تحقيق تلك الأهداف والغايات التي ذكرَتها الآية الشريفة في ضمن وصفها للنبي ورسالته، ومن بينها أن نرفع الإصر والأغلال التي تُثقل حركة الإنسان في الحياة، لا سيما تلك التي لا تمتُّ إلى الحقيقة بصلة، بل هي قائمة على الأوهام والخيالات، وتحوّلت من خلالها الخرافة إلى حقائق في عُرف الناس وفي معتقداتهم وفي سلوكياتهم، فأرهقَتْهم جسدياً وفكرياً ومالياً، وصارت بالنسبة إلى البعض وسيلة من وسائل ابتزاز أموالهم، أو عائقاً من العوائق الكثيرة التي تمنع من الانطلاق في الحياة بكل رحابتها، دون أن يمتلك هؤلاء الأساس العقلي أو الشرعي المتين الذي يستندون إليه في ذلك.