خطبة الجمعة 8 ربيع الأول 1440: الشيخ علي حسن : الخطبة الثانية: التدوير المعلوماتي وحيل الروابط

ـــ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ) [الحجرات:6].
ــــ تُقدِّم هذه الآية الشريفة قاعدة ذهبية في كيفية التعامل مع المعلومة، وضرورة التثبّت منها، لا سيما بلحاظ إمكانية الخطأ، والوهم، والتعمد في الكذب، وخبث النوايا، وغير ذلك من العوامل التي تُصبح معه المعلومة في بعض الأحيان غير حقيقية، أو مختلقة عن عمد.
ــــ هناك مقولة باللغة الإنجليزية ترجمتها كالتالي: (الكذبة تسافر حول نصف الكرة الأرضية بينما ما زالت الحقيقة ترتدي حذاءها).. هذه المقولة اليوم صادقة أكثر من أي زمن مضى.
ـــــ قبل عقود، كانت هناك بضعة وسائل إعلام عالمية، وهي عبارة عن بضعة صحف ووكالات أنباء، تَجمع الأخبار مِن كل مكان، ثم تُعيد بثّها بطريقتها الخاصة، حيث تُضخّم ما تشاء من الأخبار، وتُخفي أو تُضعف أهمية ما تشاء.
ــــ انفجار المعلوماتية اليوم وسرعة انتقال المعلومة وفّر البيئة المناسبة لعدة صور من تزييف الأخبار مع إكسابها الوثاقة، والتوجيه المعلوماتي المتعمّد، والتضليل المعلوماتي... إلخ.
ـــ هناك وسيلة تُعرف بعنوان (Circular Reporting) أي (التدوير المعلوماتي) ويعني:
1ـ أن تنشر إحدى المصادر المعلوماتية خبراً كاذباً، فتقوم مصادر أخرى بإعادة نشر هذه المعلومة، ثم يقوم المصدر الأول بالإشارة إلى تلك المصادر على أنها منبع تلك المعلومة، ليضلل بها الرأي العام، ولربما بهدف إكسابها شيئاً من الوثاقة، أو تكثير عدد القائلين بها.
2ـ أن يقوم شخص باختلاق معلومة كاذبة، فتأخذه عنه ـــ وفي آن واحد ـــ مجموعة من المصادر، ثم يعتمد أحدُهم على هذه المعلومة، وكأنها صادرة عن أكثر من مصدر، والواقع أن المصدر واحد، ولكن وسائل النشر تعددت.
ـــ هذا النموذج الثاني يُدرس أيضاً في مجال نقد الحديث، حيث نجد عدة روايات تحتوي على مضمون كاذب، ثم يتبين لنا أنها في الواقع رواية واحدة، ولكن أعيد نشرها بطرق متعددة، فيتوهّم الباحث أن المضمون صدر عن القائل عدة مرات، فيتصوّر أنه مضمون صحيح.
ــــ مثلاً، في سنة 1998، إحدى المجلات التي يُطلق عليها Pseudo-Scientific Papers أي الصحف أو المجلات الناشرة للعلوم الزائفة، حيث لا تعتمد على المنهجية العلمية، قامت بنشر معلومة كاذبة مفادها أن التطعيم (اللقاحات) من أسباب حدوث التوحّد لدى الأطفال.
ــــ في الولايات المتحدة، ومن خلال التدوير المعلوماتي، أوجدت هذه المعلومة الكاذبة جماعات مضادة وكبيرة ومنتشرة تحمل عنوان Anti-Vaccination Movements (حركات مكافحة التطعيم)، ويستجيب لها كثير من الناس، يرفضون تطعيم أطفالهم، ويجعلونهم عُرضة لمختلف الأمراض المُعدية والخطيرة.
ــــ مثال آخر: الموسوعة الإلكترونية (ويكيبيديا) مفتوحة لأي شخص، بحيث يستطيع مَن يشاء أن يُضيف ما يشاء من معلومات إلى أي عنوان يشاء، ودون الاستناد إلى مصدر، أو بالاستناد إلى مصادر وهمية، أو عن طريق الافتراء على مصادر حقيقية.
ــــ ثم تدخل هذه المعلومة الكاذبة من خلال (التدوير المعلوماتي) إلى مقالات صحفية وبحوث وكتب وكأنها معلومات مسلّمة وحقيقية، بل ومن الصعب تتبّع مصدرها لتقييمها، لتصبح بمرور الزمان وكأنها معلومة موثوقة.
ــــ وساعدت رغبتنا في الحصول على معلومات سريعة في تيسير أمر القائمين على نشر المعلومات الكاذبة عن طريق هذا التدوير، وأنْسَتنا ضرورة التثبّت والتحقق من مصداقيتها.
ــــ بينما من المفترض أن نكون أكثر حذراً عند علمنا بأن إضافة المعلومة الكاذبة أصبح متاحاً لمليارات الناس، مما يزيد من احتمال اختلاق أو ضعف المعلومة أكثر من أي زمن مضى.
ـــــ هذا الأسلوب يمثّل أهمية خاصة لدى بعض الأجهزة المخابراتية الدولية، التي تعمل على إثارة النزاعات الطائفية والقومية والدينية وغيرها، من خلال وسائل البحث في الإنترنت، ووسائل التواصل الاجتماعي كالفيسبوك والتويتر.
ـــــ وهناك أسلوب آخر، يتمثّل فيما يُعرف بعنوان (حيل الروابط).. فمنذ مدة وأنا ألاحظ أنه كلما بحثت عن موضوع يرتبط بالشيعة أو أهل البيت أو أحد مراجع الدين أو الشعائر الحسينية وأمثال ذلك، أن النتائج الأولى التي تظهر لي، هي لصفحات أو مقاطع فيديو لأشخاص لهم صفة دينية ما، ولكن أجنداتهم المخابراتية، أو على الأقل استغلالهم من قبلها أمر معروف.
ــــ والناس عادة يهتمّون بالنتائج الأولى، ويتكاسلون في البحث عن المزيد.. وهذا ما دفعني للتساؤل عن سبب ظهور النتائج بهذه الصورة وبشكل متكرر، لاسيما بلحاظ أن هؤلاء لا يمثّلون قيمة علمية، وليس في المحتوى المقدّم أهمية علمية، بل وعادة ما يشتمل على إساءات وإثارات.
ــــ المسألة حقيقةً موجّهة ومقصودة وليست بريئة أبداً... الدكتور عادل عبد الصادق في كتابه (الفضاء الإلكتروني والثورة في شئون أجهزة الاستخبارات الدولية) يقول: (مِن أدوات نشر الأفكار، تأتي محرّكات البحث التي تُنتِج المعلومات وتقدّمها مِن خلال قواعد بيانات ضخمة، وتستطيع أن تسيطر على أفكار المستخدم من خلال ما يتم طرحه من نتائج بحث حول أفكار أو قضايا معينة، وهو ما قد يتضمن تحيّزات أو توجّهات خاصة للقائمين على تلك المحركات، أو نشر المعلومات المستهلكة أو القديمة التي تحتوي على معلومات مغلوطة).
ــــ والطريف أن الرئيس الأمريكي في نهاية شهر أغسطس كتب تغريدة اشتكى فيها من تحكّم (قوقل) وتلاعبها في النتائج التي تظهر عند البحث حول اسمه، عن طريق (حيل الروابط)، بحيث تجعل معظم الأخبار والموضوعات المطروحة عنه سيئة، ثم هدّد باتخاذ الإجراءات المناسبة ضدها: (إنهم يتحكمون فيما نستطيع رؤيته وما لا نستطيع، إنه موقف خطير جداً).
ــــ وهكذا يقوم مجلس الشيوخ الأمريكي بالاستماع لشهادة مسؤولين بارزين في قوقل وفيس بوك وتويتر بشأن ما إذا كانت روسيا حاولت التأثير على الانتخابات في الولايات المتحدة عبرها.
ـــ صحيفة الغارديان البريطانية ذكرت ذات مرة أن الوثائق التي سرَّبها (إدوارد سنودن) المسئول عن (ويكيليكس) تُظهر أن إحدى الجهات المخابراتية الدولية تنفق سنوياً 250 مليون دولار على برنامج يعمل مع شركات للتكنولوجيا، للتأثير سراً على تصاميم منتجاتها وأهداف أخرى.
ــــ تقرير آخر يتحدث عن الجهات المخابراتية التي توظِّف حسابات آلية مبرمجة يُطلق عليها (الذباب الإلكتروني) وتعمل على خلق أو تبنّي الإشاعات، وإعادة نشرها في مواقع مختلفة، لا سيما من خلال وسائل التواصل الاجتماعي.. هذه وسيلة ثالثة تعمل عليها أجهزة المخابرات.
ـــ وقد لاحظت مؤخراً، كما لاحظ غيري، كثرة مقاطع الفيديو على اليوتيوب والتي تعيد إحياء المقبور صدّام إعلامياً، وهذا جزء من مشاريع اسخباراتية لإبقاء المنطقة في حالة غليان.
ــــ ويعتبر الكيان الصهيوني من الدول الأكثر تقدماً ونشاطاً في استخدام الجيوش الإلكترونية، وقد أنشأت وحداتٍ إلكترونية داخل الجيش الإسرائيلي، وقد أعلن في صيف 2017 عن صندوق ليبرتاد، وهو صندوق استثماري أنشأه الموساد ويختص في هذا المجال.
ــــ إننا اليوم، وفي ظل الانفجار المعلوماتي، وسرعة انتقال الخبر، ودخول أجهزة المخابرات الدولية كالموساد على الخط، نعيش تحدّياً معلوماتياً غير مسبوق، يستوجب منّا المزيد من التثبّت والدقّة والحرص في تبنّي المعلومة أو إعادة نشرها، لا سيّما بلحاظ أننا مسئولون أمام الله عمّا نعيد نشره، وليس فقط عمّا نذكر ابتداءً.. وما الاحتيال عن طريق التدوير المعلوماتي وحيل الروابط والذباب الالكتروني وأمثال ذلك إلا نماذج من التلاعب في نتائج البحث والتأثير على المستفيدين في عالم الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي، وقد قال تعالى: (الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ).
وقبل أن أختم لابد أن أشير إلى النصر الذي تحقق على يد المقاومة الفلسطينية مؤخراً فأسكتت العربدة الصهيونية، ووجّهت لها صفعة قوية، ولقّنتها درساً في إطار توازن الرعب الذي يُجبر العدوّ على أن يفكّر ألف مرّة قبل أن يُقدِم على أية حماقة من حماقاته، وهو ما دفع وزير الحرب الصهيوني إلى الاستقالة وهو يجرّ أذيال الخيبة والفضيحة العسكرية.. هذا النصر الذي سعت وسائل الإعلام العالمية والإقليمية إلى التغافل عنه، وتقزيم صورته، هو مثال آخر من أمثلة التحيّز والتحايل في تقديم المعلومة وفق مصالح وغايات معينة.