خطبة الجمعة 24 صفر 1440: الشيخ علي حسن : الخطبة الثانية: زواج النبي (ص) بصفية


ــــ تحدّثت في الخطبة الأولى عن إنسانية النبي (ص)، وقدّمت عدة شواهد على ذلك، كما وبيّنت كيف تم التلاعب في خبر قيام النبي (ص) عند مرور جنازة يهودي، بحيث تم إفراغ الحدث من دلالته على ذلك.
ـــ وفي هذا السياق تأتي الإشكالية التي أثارها البعض حول زواج النبي (ص) من أم المؤمنين صفية بنت حُيي، على اعتبار أنّ المروي أنها كانت مِن سَبي يهود خيبر، وقد قُتِل زوجها في المعركة، فأُعجِب النبي بجمالها، فأخذها لنفسه، وفي رواية أنها كانت من حصّة دحية الكلبي، فأخذها النبي منه، ثم لم يلبث أن عاشرها معاشرة الأزواج، وهو في الطريق إلى المدينة!
ــــ في ظل هذه الصورة القاسية، أن تُغلَب امرأة على نفسها، ويُتعامَل معها بهذه الصورة اللاإنسانية، وبعد فترة وجيزة من قتل زوجها، وهي في حالة من الحزن والذهول.. كيف يمكن أن نقول بإنسانية النبي؟ ثم أليست هذه الصورة شبيهة بما فعلته الجماعات التفكيرية الإرهابية؟
وأليست صورة قريبة لما حدث بعد قتل مالك بن نويرة؟
ــــ للرد، لابد من وقفة تحليلة مع الخبر، مع الأخذ بعين الاعتبار ما ذكرت في الخطبة الأولى.
ــــ لنلاحظ أوّلاً هذه الرواية الواردة في كتاب المغازي للواقدي عن ابنة أبي القين المُزني قالت: (كُنْتُ آلَفُ صَفِيَّةَ مِنْ بَيْنِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ (ص)، وَكَانَتْ تُحَدِّثْنِي عَنْ قَوْمِهَا وَمَا كَانَتْ تَسْمَعُ مِنْهُمْ، قَالَتْ: خَرَجْنَا حَيْثُ أَجَلَانَا رَسُولُ اللَّهِ (ص) فَأَقَمْنَا بِخَيْبَرَ، فَتَزَوَّجَنِي كَنَانَةُ بْنُ أَبِي الْحَقِيقِ) في رواية أنها كانت في السابعة عشرة من عمرها حينئذ (فَأَعْرَسَ بِي قُبَيْلَ قُدُومِ رَسُولِ اللَّهِ (ص) بِأَيَّامٍ، وَذَبَحَ جُزُرًا، وَدَعَا يَهُود، وَحَوَّلَنِي فِي حِصْنِهِ بِسُلَالِمٍ، فَرَأَيْتُ فِي النَّوْمِ كَأَنَّ قَمَرًا أَقْبَلَ مِنْ يَثْرِبَ يَسِيرُ حَتَّى وَقَعَ فِي حِجْرِي، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِكَنَانَةَ زَوْجِي، فَلَطَمَ عَيْنِي فَاخْضَرَّتْ) أي اسودّ ما حولها (فَنَظَرَ إِلَيْهَا رَسُولُ اللَّهِ (ص) حِينَ دَخَلْتُ عَلَيْهِ، فَسَأَلَنِي) عن إصابتها في عينها وذلك بعد انتهاء الغزوة (فَأَخْبَرْتُهُ، قَالَتْ: وَجَعَلَتْ يَهُودُ ذَرَارِيهَا فِي الْكَتِيبَةِ، وَجَرَّدُوا حُصُونَ النَّطَاةِ لِلْمُقَاتِلَةِ، فَلَمَّا نَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ (ص) خَيْبَرَ وَافْتَتَحَ حُصُونَ النَّطَاةِ دَخَلَ عَلَيَّ كَنَانَةُ، فَقَالَ: قَدْ فَرِغَ مُحَمَّدُ مِنْ أَهْلِ النَّطَاةِ، وَلَيْسَ هَهُنَا أَحَدٌ يُقَاتِلُ، وَقَدْ قُتِلَتْ يَهُودٌ حَيْثُ قُتِلَ أَهْلُ النَّطَاةِ، وَكَذَّبَتْنَا الْأَعْرَابُ.) لأن غطفان وعدتهم بالنصرة ثم خذلتهم (فَحَوَّلَنِي إِلَى حِصْنِ النِّزَازِ بِالشَّقِّ، قَالَتْ: وَهُوَ أَحْصَنُ مَا عِنْدَنَا، فَخَرَجَ حَتَّى أَدْخَلَنِي وَبِنْتَ عَمِّي وَنُسَيَّاتٍ مَعَنَا، فَسَارَ رَسُولُ اللَّهِ (ص) إِلَيْنَا قَبْلَ الْكَتِيبَةِ) أي زحف المسلمون على حصن النزار قبل حصن الكتيبة (فَسُبِيتُ فِي النِّزَازِ قَبْلَ أَنْ يَنْتَهِيَ النَّبِيُّ (ص) إِلَى الْكَتِيبَةِ، فَأَرْسَلَ بِي إِلَى رَحْلِهِ، ثُمَّ جَاءَنَا حِينَ أَمْسَى فَدَعَانِي فَجِئْتُ وَأَنَا مُتَقَنِّعَةٌ حَيِيّةٌ، فَجَلَسْتُ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَقَالَ: "إِنْ أَقَمْتِ عَلَى دِينِكِ لَمْ أُكْرِهْكِ، وَإِنِ اخْتَرْتِ الْإِسْلَامَ وَاخْتَرْتِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَهُوَ خَيْرٌ لَكِ". قَالَتْ: أَخْتَارُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالْإِسْلَامَ، فَأَعْتَقَنِي رَسُولُ اللَّهِ (ص) وَتَزَّوَجَنِي...) وللرواية تتمة سأناقشها لاحقاً.
ـــ ثم قالت: (فَكُنْتُ أَلْقَى مِنْ أَزْوَاجِهِ، يَفْخَرْنَ عَلَيَّ يَقُلْنَ: يَا بِنْتَ الْيَهُودِيِّ، وَكُنْتُ أَرَى رَسُولَ اللَّهِ (ص) يَلْطُفُ بِي وَيَكْرِمُنِي، فَدَخَلَ عَلَيَّ يَوْمًا وَأَنَا أَبْكِي فَقَالَ: "مَا لَكِ؟"، فَقُلْتُ: أَزْوَاجُكَ يَفْخَرْنَ عَلَيَّ وَيَقُلْنَ: بِنْتُ الْيَهُودِيِّ، قَالَتْ: فَرَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ (ص) غَضِبَ، ثُمَّ قَالَ: "إِذَا قَالُوا لَكِ أَوْ فَاخَرُوكِ فَقُولِي: أَبِي هَارُون) لأن أبوها كان من الكهنة فهو من ذريته (وَعَمِّي مُوسَى").
ـــــ وفي المغازي: (كان رسول الله (ص) قد أرسل بها مع بلال إلى رَحله. فمرّ بها وبابنة عمِّها على القتلى، فصاحت ابنةُ عمِّها صياحاً شديداً، فكرِه رسول الله (ص) ما صنَعَ بلال فقال: أذَهَبَت منك الرحمة؟ تمرُّ بجارية حديثةِ السِّنّ على القتلى؟! فقال رسول الله (ص) لابنة عم صفية: ما هذا إلا شيطان) أي ما جرى من عمل الشيطان، كما جاء في قوله عزوجل على لسان موسى: (قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِينٌ) [القصص:15].
ــــ إلى هنا، النبي (ص) تعامل معها ومع ابنة عمّها بكل إنسانية متناسبة مع أخلاقه.. ولكن لاحظ كيف دخلت يد التحريف والزيادة والتلاعب في الخبرين بما يُصوِّر تصرّف النبي (ص) على خلاف ذلك تماماً، وأنه بادر إلى الزواج بها فوراً، وتعامل معها كزوجة بعد ساعات!
1. بالنسبة لخبر بلال، لاحظ كيف تم التلاعب فيه. ففي الطبري عن ابن إسحاق: (أُتي رسول الله بصفية بنت حيي بن أخطب وبأخرى معها، فمرّ بهما بلال وهو الذي جاء بهما على قتلى من قتلى يهود، فلما رأتهم التي مع صفية صاحت وصكّت وجهها وحثَت التراب على رأسها، فلما رآها رسول الله قال: اعزبوا عني هذه الشيطانة. وأمر بصفية فحيزت خلفه وألقي عليها رداؤه فعرف المسلمون أن رسول الله (ص) قد اصطفاها لنفسه).
2. وبالنسبة لزواجه من صفية، لاحظ كيف تم التلاعب فيه، وبما يخالف الشرع والأخلاق: (قَدِمَ النَّبِىُّ (ص) خَيْبَرَ، فَلَمَّا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْحِصْنَ ذُكِرَ لَهُ جَمَالُ صَفِيَّةَ بِنْتِ حُيَىِّ بْنِ أَخْطَبَ، وَقَدْ قُتِلَ زَوْجُهَا، وَكَانَتْ عَرُوساً، فَاصْطَفَاهَا رَسُولُ اللَّهِ (ص) لِنَفْسِهِ) لاحظ الرسائل السلبية لتشويه صورة النبي (فَخَرَجَ بِهَا، حَتَّى بَلَغْنَا سَدَّ الرَّوْحَاءِ) 80 كم جنوب المدينة علماً بأن خيبر شمال المدينة، وبالتالي هذا لا يصح ودليل على الخلل في الرواية، وفي رواية البخاري "سد الصهباء" وهو يبعد 30 كم تقريباً جنوب خيبر (حَلَّتْ، فَبَنَى بِهَا) أي عاشرها معاشرة الأزواج.
ــــ في تاريخ دمشق لابن عساكر: (عن جابر أن رسول الله (ص) أُتِي بصفية يوم خيبر وأُتِي برجلين أحدهما زوجها والآخر أخوها، فذكر الحديث) أي إعدامهما (قال: وبات أبو أيوب ليلة عرس رسول الله (ص) يدور حول خباء رسول الله (ص)) أي عندما اختلى بها ليعاشرها (فلما سمع رسول الله(ص) الوطء قال: مَن هذا؟ قال: أنا خالد بن زيد. فرجع إليه رسول الله (ص): ما لَك؟ قال: ما نمت هذه الليلة مخافةَ هذه الجارية عليك. فأمرَه رسولُ الله (ص) فرجع).
ــــ ثم لابد من التنبيه على أمر وهو أن اليهود لما استسلموا، انتهت الغزوة بالاتفاق على حقن دماء المقاتلين الموجودين في الحصون، وترك الذرية لهم، وأن يَبقوا في خيبر، ويعملوا في زراعتها، وأن تكون نصف المحاصيل لهم.. فكيف تكون صفيّة سبيّة؟
ــــ ولذا، فإنّ الذي يمكن أن نفهمه من النص الأول أن النبي (ص) خيّرها بين البقاء على دينها ومع أهلها، وبين أن تُسلم وتغادر معه إلى المدينة، فاختارت الثاني.
ــــ ولو افترضنا جدَلاً أنها كانت سبيّة، إلا أننا نجد بأن المسلمين متفقون على لزوم العدّة، وإن اختلفوا في المدّة بين الحيضة أو أكثر. قال الشيخ الطوسي في كتابه (الخلاف): (الأمَة المشتراة والمسبيّة تعتدّان بقُرءين). سواء فسّرنا القُر بالطُهر أو بالحيض.
ـــ بل إنها كانت أرملة في أثناء المعركة، وفي الحديث عن الباقر (ع) قال: (يَا زُرَارَةُ، كُلُّ النِّكَاحِ إِذَا مَاتَ الزَّوْجُ فَعَلَى الْمَرْأَةِ حُرَّةً كَانَتْ أَوْ أَمَةً وَعَلَى أَيِّ وَجْهٍ كَانَ النِّكَاحُ مِنْهُ مُتْعَةً أَوْ تَزْوِيجاً أَوْ مِلْكَ يَمِينٍ فَالْعِدَّةُ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْراً). وفي بعضها أن عدّة الأمة نصف هذه المدّة.
ــــ وحيث أنَّ قَطع مسافة 30 كم يتم في أقل من يوم، فلا تتحقق العدّة، لذا حاول الراوي أن يسدّ الثغرة فقال أن هذا حصل عند سد الروحاء، أي بعد قطع مسافة 250 كم، وهو ما يتطلب مسير 6 أيام تقريباً، فزاد الطين بِلّة.. فلماذا يسير النبي 80 كم جنوب المدينة؟

ــــ إنّ رسول الله (ص) بالقِيَم التي جاء بها، ومن خلال شخصيته العظيمة التي تجلّت فيها الإنسانية كأروع ما تكون، ومن خلال سيرته العملية المحمودة، مع المسلمين وغيرهم، استطاع أن يُحدِث انقلاباً كبيراً في البُعد النفسي والاجتماعي لدى الناسِ مِن حوله، وأن يرقَى بهم في أفكارِهم ومشاعِرهم وسلوكياتهم، ومِن المؤسف أنَّ بعضَ مَن جاء مِن بعده لم يستوعبوا هذا البُعد الإنساني في شخصيته (ص)، أو تعمّدوا تشويهها لغرضٍ في نفوسهم، فغيّروا وبدّلوا واخترعوا من النصوص ما يتعارض مع هذه الصورة الرائعة، ومن ذلك قصة زواجه من صفية بنت حُيي، ومن مسئوليّتنا أن لا نستسلم لهذه النصوص ولو جاءت بأسانيد صحيحة، فالتزوير قد طال الأسانيد كما طال المتون، وعلينا أن نجعل القرآنَ والعقلَ وثوابتَ الشريعةِ والأخلاقَ أسساً حاكمةً عليها.