خطبة الجمعة 24 صفر 1440: الشيخ علي حسن : الخطبة الأولى: إنسانية رسول الله (ص)

ــــ قال تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ) [الأنبياء:107].
ــــ من السمات الواضحة في شخصية النبي (ص) البُعد الإنساني من جهة، والحسّ المرهف الذي كان يتمتّع به تجاه الناس من جهة أخرى، وهو ما يمكن أن يُعبَّر عنه بالذكاء العاطفي أو الاجتماعي.. لا سيّما بالمقارنة بما كان عليه الآخرون بهذا اللحاظ.
ـــــ وقد أحدث النبي (ص) بذلك أيضاً انقلاباً كبيراً في البُعد النفسي والاجتماعي لدى الناس مِن حوله، لا من خلال الكلمة والموعظة فحسب، بل من خلال سيرته العملية أيضاً، مع المسلمين وغيرهم، بل ومع مَن يُتوقَّع أن يقسو عليهم وينتقم منهم. والشواهد على ذلك كثيرة جداً، منها:
ـــ أبو عزيز بن عُمير، وهو أخو الصحابي مصعب بن عمير، روى عن أمرٍ جَرى له قبل أن يُسلم، قال: (كنت في الأَسارى يوم بدر) لأنه كان من جيش المشركين حينئذ (فقال رسول الله (ص): استوصوا بالأَسارى خيراً)، ثم روى كيف تصرّف المسلمون مع أسراهم تطبيقاً لهذه الوصية، قال: (فمرَّ بي أخي مصعب بن عمير، ورجلٌ من الأنصار يأسِرُني، فقال: شُدَّ يدَك به) أي احذر أن يهرب منك (فإنَّ أمَّه ذات متاعٍ) أي ثريّة (لعلّها تفديه منك، قال: وكنتُ في رهطٍ من الأنصار حين أقبلوا بي من بدرٍ، فكانوا إذا قدَّموا غَداءَهم وعَشاءهم، خصّوني بالخبز، وأكلوا التمر؛ لوصية رسول الله (ص) إياهم بنا) والخبز عندهم أفضل طعاماً (ما تقع في يدِ رجلٍ منهم كِسرةُ خبزٍ إلا نفحَني بها) أهداني إياها (قال: فأستحيي، فأردُّها على أحدهم، فيردُّها عليَّ، ما يمسّها). وفي رواية الزُّهري: (وكان الوليد بن الوليد بن المغيرة يقول مثلَ ذلك، ويزيد، بل وكانوا يحملوننا ويمشون).
ــــ وكان مِن بين الأسرى في يوم بدر الشاعر أبو عزة الجُمَحي الذي كان يؤلِّب ضد النبي والمسلمين، فقال للنبي (ص): (لي خمسُ بناتٍ، ليس لهنَّ شيء، فتصدّق عليهم يا محمد، أُعطيك موثِقاً لا أقاتِلُك، ولا أكثِر عليك أبداً). فقبل النبي كلامه وأطلقه.
ــــ الشاهد الآخر: (كَانَ سَهْلُ بْنُ حُنَيْفٍ وَقَيْسُ بْنُ سَعْدٍ قَاعِدَيْنِ بِالْقَادِسِيَّةِ) منطقة قريبة من الكوفة وذلك في عهد ما بعد النبي (ص) (فَمَرُّوا عَلَيْهِمَا بِجَنَازَةٍ فَقَامَا، فَقِيلَ لَهُمَا: إِنَّهَا مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ) وأهل تلك المنطقة لم يدخلوا الإسلام بعد (فَقَالَا: إِنَّ النَّبِيَّ (ص) مَرَّتْ بِهِ جِنَازَةٌ فَقَامَ، فَقِيلَ لَهُ: إِنَّهَا جِنَازَةُ يَهُودِيٍّ. فَقَالَ: أَلَيْسَتْ نَفْسًا؟!).
ــــ والغريب أن بعض مَن جاءوا في عصر لاحق لم يُعجبهم هذا السلوك النبوي ولم يستوعبوه، وذلك نتيجة التحريف والتبديل الذي طال الإسلام في مبانيه الفكرية وتشريعاته وأخلاقياته وآدابه، أو نتيجة خُبث نفوسهم لتشويه صورة الإسلام من الداخل، أو لتبرير سلوكياتهم التي لا تتناغم مع تعاليم الإسلام وسيرة النبي (ص)، أو للانتصار لرأي فقهي ظنّي تمسّكوا به.
ـــــ ومن هنا، عمدوا إلى التلاعب في النص السابق، أو الإضافة عليه، أو وضع خبرٍ مكذوب، وحاصلها كلها إبطال البُعد الإنساني في التصرّف النبوي:
1. أن الصحابيين سهل وقيس قالا في تبرير فعلهما: (إنما قمنا للملائكة).
2. ونسبوا للإمام الحسن (ع) أنه قال: (إنما قام رسول الله (ص) تأذّياً بريح اليهودي).
3. وقيل أن: (الحسن بن علي (ع) كان جالساً ومعه أصحابٌ له، فمرَّ بجنازة، فقام بعض القوم ولم يقم الحسن (ع)، فقال بعضهم: ألا قمت عافاك اللَّه تعالى؟ فقد كان رسول اللَّه (ص) يقوم للجنازة إذا مرّوا بها عليه. فقال الحسن (ع): إنما قام رسول اللَّه (ص) مرّة واحدة لجنازةِ يهوديّ، وكان المكان ضيّقاً، فقام رسول اللَّه (ص) وكرِه أنْ تعلُوَ رأسَه).
4. عن عبد الله بن عمرو أن النبي (ص) قال: (إنما تقومون إعظاماً للذي يقبض النفوس).
5. وروي أنه: (مرّت جنازة، فقام لها رسول الله (ص) وقمنا معه، فقلنا: يا رسول الله! إنها يهودية، فقال: إنّ الموتَ فزَع، فإذا رأيتم الجنازة فقوموا).
ـــ ولذا قال بعض فقهاء المسلمين: (هذا) أي القيام (إما أن يكون منسوخاً، أو يكون قام لعلّة) كما في الروايات السابقة لأنه تأذّى من الرائحة وما شابه (وأيهما كان، فقد ثبت أنه) أي النبي (تركه بعدَ فِعلِه، والحجّة في الآخِر مِن أمره) أي في آخر تصرّف له في المقام (والقعودُ أحبُّ إليّ). ومؤدّى الكل إبطال البُعد الإنساني لديه.
ـــ هذا التلاعب والتزوير والتغيير الذي تمّ في خصوص رواية قيام النبي عند مرور جنازة اليهودي، وبما يخالف البُعد الإنساني في شخصيّته، أو بما يُفقده بريقَه، قد تكرَّر في أكثر من رواية ومشهد من مشاهد السيرة النبوية الشريفة، ومِن ذلك قصةُ زواجِه مِن أم المؤمنين صفية بنت حُيي بن أخطب، وهو ما أثار شبهاتٍ على شخصية النبي وسلوكه وإنسانيّته وشريعته، وسأعالج الموضوع في الخطبة الثانية بإذن الله تعالى.