وترجل فارس التوحيد

المشهد الأول:

قلبٌ تمايز عن القلوب.. ونبضاتٌ من نوعٍ آخر.. دقّاتُه كأنّها تَنطقُ حروفاً.. أو كلماتٍ.. أو ترانيم.. لا أحد يعلم تماماً معانيها.. إلا صاحبُها.. وقد تجافى جنبُه عن المضجع.. وأسهَر عينيه.. وأتعبَ جسدَه.. وتهاوَى شُموخُه بين يدَيْ ربِّه في سجودٍ كأنّه الدهرُ في عمقِ الزمان.. وتهادَت أدمُعُه على خَدّيه.. وتملّكَ قلبَه خوفٌ.. تعظيماً لخالقِه.. وأسَر فؤادَه طمعٌ.. رجاءً في عفوِه ورِضوانِه.. إلهي.. (ارْحَمْنِي صَرِيعاً عَلى الفِراش.. تُقَلِّبُنِي أَيْدِي أَحِبَّتِي.. وَتَفضَّلْ عَلَيَّ مَمْدُوداً عَلى المُغْتَسَل.. يُقَلِّبُنِي صالِحُ جِيرَتِي.. وَتَحَنَّنْ عَلَيَّ مَحْمُولاً.. قَدْ تَناوَلَ الأقْرِباءُ أَطْرافَ جَنازَتِي.. وَجُدْ عَلَيَّ مَنْقُولاً.. قَدْ نَزَلْتُ بِكَ وَحِيداً فِي حُفْرَتِي.. وَارْحَمْ فِي ذلِكَ البَيْتِ الجَدِيدِ.. غُرْبَتِي)..

حتى إذا مضى شطرٌ مِن السَّحَر.. وسَكنَ قلبُه.. تذكَّرَ حاجاتِ الناسْ.. الأيتامْ.. الفقراءْ.. أهلَ المسكنةْ.. الأراملْ.. والمنكوبينْ.. فأرخى دموعَه.. ودعا ربَّه بكلماتٍ لم تفارِقْ جَنانَه.. فقد سكنت في أعماق وجودِه مُذ سمِعَ قاريءَ الصحيفةِ السجاديةِ يتلوها: إلهي (وَجِّهْ فِي أَبْوَابِ الْبِرِّ إنْفَاقِي).. إلهي (حَبِّبْ إلَيَّ صُحْبَـةَ الْفُقَرَاءِ).. إلهي (أَعِنِّي عَلَى صُحْبَتِهِمْ بِحُسْنِ الْصَّبْرِ).

وعَقَد (الحجّي) عَزمَه.. وعاهدَ ربَّه.. ألّا يَمضي يومُه إلا والحاجاتُ مقضيّة.. والنفوسُ مطمئنّة.. والقلوبُ راضية.

وهكذا كان.. فما أن اندلع لسانُ الصباحِ حتى خرجَ ساعياً.. مُيمِّماً وَجهَه لله.. مُذكِّراً نفسَه: (وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا، وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا).. ثِقةٌ عظيمة.. وعَزمٌ راسخ.. وجَسدٌ لا يَكَلُّ في طريقِ الخير.. وتطلُّعٌ إلى وعدِ الله القائل: (فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ).. ولأنه فارسُ (التوحيد) الذي عرِفَ كيف المبدأَ.. وما هو الطريق.. وإلى أين المَعَاد.. فاستعبَر!











المشهد الثاني:

ضاقَت أرضُ عرفاتٍ وما رَحُبَت.. وعند مَأزَمَيْها مِئاتُ الحافلاتِ تتصارعْ.. وفِئامُ الناسِ تتزاحمْ.. وقد تلبّدَت السَّمَاءُ عند الغروبِ بِدُخُانٍ مُبينٍ.. كيومِ المَحشَر.. وأخَذ الإجهادُ مِن الحُجّاجِ كُلَّ مأخَذ.. واسترخَوا في مقاعدِهم.. كلٌّ يبحثُ عن شَربةِ ماء.. أو باردِ هواء.. أو طعامٍ تُسَدُّ به جَوعَة.. أو يُقلِّبُ صفحاتِ كتابٍ للدعاء.. لوداعِ عرفات.. أو لاستقبال المشعَرِ الحرام..

إلا فارسُ (التوحيد).. (الحجّي) الذي جاوز السبعين.. إذ فاجأ الجميعَ مُترجِّلاً على عَجَلْ.. وصارَ يجولُ بين هياكِلِ الصُّلبِ الضخمة.. وهي تتشاكس.. وتتقارب بشكلٍ مخيفْ.. وكأنها تبحثُ عن ضحيةٍ تحشُرُه بينها.. أو تسحَقُه بتهوِّرِها.. وليس هذا عنها بغريب.

ولكنّه ــــ بقلبِه الشجاعِ ــــ لم يأبَه.. إذ لم يكن مِن هَمِّه في حينِها إلا أن يَطمئِنّ بنفسه.. أنّ حُجّاجَه قد رَكِبوا سالمين.. ولو كان العامِلون متوافِرين مِن حولِه.. يَكفونَهُ مُؤنةَ التعب.. ولو كان الثَّمَنُ أنْ يَلحَقَ بهم ــــ ماشياً ــــ آلافَ الأمتارِ على قَدميهِ التَّعِبتَينِ.

في فلسفةِ (الحجّي) في الحياة.. لا ضَيرَ أن تكونَ (نفْسُهُ مِنْهُ فِي عَنَاء).. فالأهمُّ ـــ عنده ـــ أن يكونَ (النَّاسُ فِي رَاحَة).. إذ تعلّم في مدرسةِ عليٍّ التي تتلمذَ فيها.. أنّ صاحِبَ التقوى هو مَن (أَتْعَبَ نفسَه لآخِرَتِهِ، وَأَرَاحَ النَّاسَ مِنْ نَفْسِهِ).. فهو يفكّر.. يَعمل.. يَجتهد.. بإخلاصٍ.. وتفانٍ.. وتضحيةٍ.. وإيثارٍ.. ودقّةٍ.. وحرصٍ.. وإتقان..

لأنه فارسُ (التوحيد) الذي غزا حُبُّ الناسِ قلبَه.. فصارَعَ هواه.. وآثَرَهم على نفسِه.. فانتصَر!

المشهد الثالث:

يتزاحمُ الشبابُ والأطفالُ مِن حولِه.. قبلَ الكبار.. حيثما حَلّ.. في مخيمِ الربيع.. في الدوراتِ الدراسية.. وحيثُ يَهجُرُ مَنامَه الوَثيرَ ليَفترشَ الأرضَ في كينيا.. وتنزانيا.. وأوغندا.. (مؤسسةُ أهلِ البيتِ للبرِّ والإحسان).. هكذا أسماها.. ومِن قبلُ (دارُ التوحيد).. (مؤسسةُ البلاغ).. (حملةُ التوحيد).. (دارُ الزهراء).. وعشراتُ المشاريعِ التي حَوَّلها مِن مُجرّدِ طُموحٍ وأملْ.. إلى حقيقةٍ وعَملْ.. يَرفُدُها بالمال.. ويُعطيها مِن صحّتِه.. تَسلُبُه الراحةَ إنْ وَهَنَت.. ويُعطيها مِن قوَّتِه إنْ ضَعُفَت.. فهي وُجودُه.. وكينونَتُه.. وذَخيرتُه.. فابنُ آدمَ ـــ إنْ مات ـــ انقطعَ عملُه إلا مِن ثلاث: صدقةٌ جارية، أو عِلمٌ يُنتَفع به، أو ولدٌ صالحٌ يَدعو له.. ولم يرضَ (الحجّي) بذخيرةٍ أقلَّ مِن أنْ تجتمعَ فيها كلُّ تلك الخِصال.. تماماً كما اتَّخذَ مَكارمَ الأخلاقِ له هويّة.. ومعاليَ الأمورِ له دِثاراً..

ظلموه فقال: (وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ.. وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ.. وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ).. اتّهموه فقال: (كَفَى بِاللّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ.. إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا).. أساءوا إليه فقال: (وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ.. ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ.. فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ.. كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ).. هجروه فقال: (صِل مَن قطَعك.. واعطِ مَن حَرَمَك.. واعفُ عَمَّن ظَلمَك).. وحين اعتذروا له قال: (وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا.. أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ)..

هكذا يكون مَن جعَل نفسَه ميزاناً فيما بينه وبينَ غيرِه، فأحبَّ لغيرِه ما أحبَّ لنفسه، وكرِه لهم ما كرهِ لها، ولم يَظلِم كما لم يُحب أنْ يُظلَم، وأحسَنَ كما أحبَّ أنْ يُحسَنَ إليه، واستقبحَ مِن نفسِه ما استقبحَ مِن غيره.. لأنه فارسُ (التوحيد) الذي أدرك أنّه لن يسعَ الناس بمالِه.. فوسَعَهم بأخلاقِه.. وعَلِمَ أنّ بِشْرَه مفتاحُ مَغاليقَ قلوبِهم.. فأكثَرْ!

المشهد الرابع:

دارُ الزهراء.. دُرّةُ مشاريعِ (الحجي).. قِطعةٌ مِن فؤادِه.. تبكي فِراقَ شيخِها الوَعِك.. تلثمُ مواطيءَ قَدميْه.. تتنفسُ زفيرَ كلماتِه الحانية.. وتقرأُ الثوانيَ الدائرةَ في الفراغ.. تدورُ عقاربُ الساعةِ.. ولا يدورُ الزمنُ ليعودَ إليها بشيخِها.. بمعشوقِها.. بفارسِها الذي لم تُفارِقْ خيالَه.. ولم يَخرُج حبُّها في يومٍ ما مِن قلبه.. وتَبقى الدارُ تُدمدِم: (كيف افترقْنا يا حبيبي؟... والدربُ يَعرِفُ شكلَ خُطوتِنا... ويعرِفُ لونَ خَيمتِنا... ويَعرف نبضةَ القلبِ المجَرَّح... والدربُ يَعرفُ أننا نبكي... ونبكي... ثم نفرحْ... فهل سنفرح؟ ما أجملَ الجُرحِ الذي يَنشقُّ عن مُهرٍ مُجَـنَّحْ... ما أجملَ الجُرحِ الذي برموشِ عاشقهِ توشَّحْ... وشفاهُنا تحكي... وتحكي... غيرَ أنَّ الجُرحَ أفصحْ).

عادتْ (الدارُ) تَرقُبُ ساعةَ العودةْ.. ولكنَّ معشوقَها قد تأخَّرْ.. ولم تعهد منه أن يتأخَّرْ.

آهٍ يا دارَ الزهراء.. جُرحُكِ قد تَفتَّقْ.. جُرحُكِ الدامي قد توقّفَ عن النزفِ أخيراً.. ولكنْ.. لا تفرحي يا دارُ.. فجُرحُكِ بماءِ الكوثرِ قد تَطهّرْ.

آهٍ يا دارَ الزهراء.. أسبـِلي جِفنيكِ على جَمرِ الفِراق.. وخُذي الدمعَ الذي يَقطُرُ من جَمْرةِ قلبي.. وشظايا كَبِدي.. فإنَّ أنفاسَ شيخِكِ قد سالتْ كأنشودةِ عاشِقْ.. وكلُّ الكلماتِ احترقَت فوق يَديَّ.. فدفَنتُ رُوحي بِلَيلٍ ما عادَ يَسمعُ تَمتماتِ شيخِكِ العاشقْ.

فقد تَرجّلَ فارسُ (التوحيد).. أخيراً.. وهدأ قلبُ ذلك الشيخِ الوَقور.. ولكنَّ قلبَ الدارِ لم يَهدأ.. ولن يَهدأ.. وقلوبُ مُحبّيهِ ــــ لحُرقةِ فراقِه ــــ لم تهدأ.. ولن تهدأ.. لأنه فارسُ (التوحيد) الذي غزا حُبُّه قلوبَ الناس.. وعلى عروشِها تربّع!

المشهد الأخير:

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً).. (ما أقبَلَ عَبدٌ بِقَلبِهِ إلَى اللهِ، إلّا جَعَلَ اللهُ قُلوبَ المُؤمِنينَ تَفِدُ إلَيهِ بِالوُدِّ وَالرَّحمَةِ).. (ازْهَدْ فِيمَا فِي أَيْدِي النَّاسِ.. يُحِبُّوكَ).. (مَن كَثُرَ إحسانُهُ أحَبَّهُ إخوانُهُ)..

معادلاتٌ إلهية.. ووعودٌ ربّانية.. وحِكمٌ اجتماعية.. تعلّمها (الحجي) في مدرسةِ الإسلام.. ونالَ مرتبةَ الشرفِ والرِّفعَةِ فيها.

هذا ــــ باختصار ـــ ما جعل أفئدةَ الناس تهوي إلى عَزائِهْ.. فأهلُ المحبّةِ والوفاءِ تقاطروا.. زُرافاتٍ ووِحدانا.. شيوخْ.. شبابْ.. أطفالْ.. ومَن لَم تَمنعْهُم شيخوختُهُم.. أو عِلَّتُهم.. أو ما ابتُلوا به في أجسادِهم.. أو أبصارِهم.. مِن أن يُشاركوا في هذا الوداع.

(كان أبانا كُلَّنا).. كلمةٌ ردَّدها كثيرٌ منهم.. فما لأَداءِ تكليفٍ جاءوا.. ولا مجاملةً لأحدٍ وفَدوا.. بل قادَهمُ ذلك الشعورُ الخفيُّ بالارتباط الروحيّ العميق (بالحجّي).. إنه الأبُ صاحبُ القلبِ الكبيرِ.. الذي طالما احتضنَهم.. بعطفِه.. بحضورِه الاجتماعي.. بسعيهِ الحثيثِ لإصلاحِ ذاتِ البين.. ورأبِ الصدع.. وجَمْعِ الشمل.. ومَدِّ يدِ العون ما كان إلى ذلك سبيلاً.. وقد عهِدوا منه كلماتِ اللُّطفِ وهو يسألهم عن أحوالِهم.. وعن أحوالِ أقربِ الناس إليهم.. في صحّتِهم.. في أمورِهم الاجتماعية.. في أوضاعِهم المالية.. في مشاريعِهم الدراسية.. في أحوالِهم المعاشية.. وكأنّ الجالسَ بين يَديه.. ولدٌ من أولادِه.. وفَلذةٌ اجتُزِئت من كَبِدِه.

وكان مِن بينِ المعزّين.. ذو الشيبة.. الماشي كهيئة الراكع.. بائعُ الخضار الذي طالما رأيناه ـــ متحدِّياً إعاقتَه ـــ وهو يقفُ عند بابِ المسجدِ.. يَعرِضُ بضاعتَه.. وما أن وطأت مجلسَ العزاءِ قدماه.. حتى تفجَّرَت أدمعُه.. وأجهشَ بالبكاء.. وكلَّما سكنَت دمعتُه.. عاد من جديدٍ.. يَذرِفُ الدمعَ على الفقيد.. وكأنه يَستعيدُ ذِكرياتٍ حُفِرت في وجدانه.. فلم تُغادرها.. وصارت جزءً من كيانِه.. فما نسِيَها..

ولم يجرؤ أحدٌ أنْ يسألَه عن سِرِّ هذا النَّدا الساخن.. فمَن يَعرف القلبَ الكبيرَ (للحجّي) يَعلمُ أنّ وراءَ هذه الأدمُعِ سِرّاً.. أخفاه الزمان.. ولم يُحدِّث (الحجّي) به أحداً.. كعادتِه.. فكم كان يكرهُ الشهرة.. ويعشقُ الإخلاصَ لله.. وسيبقى ما وراءَ ذلكَ البكاءِ سِرّاً مِن الأسرار.. احتفظَ فارسُ (التوحيد) به لنفسِه.. وودَّعَ به الدنيا.. وتركَ وراءَه حُبَّ الناسِ.. ووفاءَ الناس.. بعد أن صارَعَ هواه.. وآثَرَهم على نفسِه.. فغادرَ دارَ الفناءِ متربِّعاً عرشَ قلوبِهم.. ويستقي مِن كأسِ آخرتِه رَحيقاً مختوماً.