خطبة الجمعة 10 صفر 1440: الشيخ علي حسن : الخطبة الثانية: الوجودية الإسلامية ـ 2

ــــ ذكرت في الأسبوع الماضي أثناء بياني لانحرافات ما يُعرف باسم (الوجودية الإسلامية) ثلاثة مبان فكرية تقوم عليها هذه الدعوة، وترتبط بمفهوم الإيمان والدين والنبوة. وأُكمِل في هذه الخطبة عرض نقاط أخرى يمكن استقاؤها من أفكارهم المنشورة في كتبهم.
4ـــ محاربة الشريعة الإسلامية: (جلال الدين الرومي) من أقطاب الصوفية (لم يصبح مُسلماً ومؤمناً حقيقياً وبهذه الروح الكبرى التي آل إليها قدِّيساً إلا حينما داست رقصتُه فِقهَه، بعد أن تيقّن أنه لن يصل إلى الله والحقيقة الدينية إلا أن يَكفُرَ بكل المعرفة الدينية وكهنوتِها).
ـــ ولكن، هل يمكن أن يتم دينٌ دون شريعة؟ أليست الشريعة هي مجموعة القوانين التي تنظِّم سلوك الإنسان تجاه الله، وتجاه نفسه، وتجاه الآخرين، وتجاه ما حوله؟
ــــ يا أعزائي الشباب، لا يوجد أي كيان، حزباً كان، أو جمعية، أو دولة، أو مؤسسة دولية إلا ووضعَت لها مجموعة قوانين تنظيمية.. وما الشريعة الإسلامية إلا كذلك.
ــــ وأما إذا كان الحديث عن بعض الفتاوى غير المقبولة أو (غير الإنسانية)، فالأمر قابل للحوار والإصلاح عند وجود الخلل، وذلك من خلال إعادة الاجتهاد.. فما بأيدينا من فقه إسلامي ينقسم إلى ما نسبته 6% تقريباً من الضروريات، و94% قابلة لإعادة البحث والنظر. ومعالجة هذه المسألة لا تتم بمحاربة الشريعة ككل، والدعوة إلى الكفر بها.
ــــ علماً بأن الجوانب الإنسانية في الشريعة الإسلامية بارزة وكثيرة، وقد أُفرِد لذلك حديثاً خاصاً.
5ــــ اعتبار المساجد ـــ وبيوت العبادة الأخرى ــــ مراكز للكفر بحسب مفهومهم للكفر والإيمان، إذ يتمّ فيها تدمير الحقيقة الإنسانية. من يريد الله والدّين فعليه ترك المساجد: (إذا أُدخِل النبي والإله المعبَد، توحَّشَ النبي وقسا الله.. الله بلا معبد، هذه أهم حقيقة لابد الالتجاء إليها).
ـــ بل وتفضيل بيوت الفاحشة عليها: (المبغى هو وحدُه المبنى الحقيقي في التاريخ) لأن اسمه يطابق حقيقته (على عكس المعبد، فهو المبنى الأكثر زيفاً في التاريخ، لأنّ محرابَه للسرقة).
ــــ ولكنّ قولَ علي (ع) ــــ الذي أكثروا من تعظيمه ــــ أصدقُ من قولهم، فعن الأصبغ أن علياً (ع) (كان يقول: مَن اختلف إلى المسجد أصاب إحدى الثمان: أخاً مستفاداً في الله، أو علماً مستطرفاً، أو آية محكمة، أو يسمع كلمةً تدل على هدى، أو رحمةً منتظرة، أو كلمة تردّه عن ردى، أو يترك ذنباً خشية أو حياء).
ــــ والمسجد هو المشروع الأول الذي عمل النبي (ص) على تأسيسه فور وصوله المدينة المنورة، وقد قال تعالى في بيان أهمية الحفاظ على المساجد ودورها الإيماني والروحي: (وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) [الحج:40].
6ــــ يصبّون جامَ غضبِهم على (علماء الدين المسلمين) معتبرين أن القراءة الصحيحة لقوله تعالى: (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ) [فاطر:28]، (إنَّما يخشى اللَّهُ مِن عبادِه العُلماءِ).
فالله يخشى من قوة التأثير السلبي للعلماء على عامة الناس.
ــــــ وهذا برأيهم ما حصل فعلاً حيث نسبوا إليهم تحريف الإسلام من خلال تحريف مبادئه الإيمانية، وسلبوا المسلمين حريَّتهم من خلال الشريعة، وساهموا في قتل الناس، ونهب أموالهم، وهتك أعراضهم من خلال فتاواهم المؤيِّدة للسلاطين والظالمين.
ــــ والحال أن مراجعة الآية في سياقها خلاف ذلك تماماً، فهي تبدأ هكذا: (وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَىٰ وَالْبَصِيرُ) إلى أن تصل إلى قوله تعالى: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ، وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَٰلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ) [فاطر:19-28] ومن الواضح أنها تتحدث عن التدبر في خلق الله، وأثر ذلك على تقوى الإنسان.. ولكنه أسلوب القوم في التحريف وخداع البسطاء والتلاعب بمشاعر الناس.
ــــ كما لا يجوز تعميم الاتهامات السابقة للعلماء، فقد حَفظ الصالحون منهم هذا الدين، وحملوا الأمانة، وسلّموها عبر الأجيال، وقدّموا في هذا الطريق الكثير مِن التضحيات، فسُجن منهم من سُجن، وعُذِّب من عُذِّب، وقُتل منهم من قُتل.. وإذا فسد البعض فهذا لا يعني فساد الكل.
7ــ ديدنُهم النظرة السوداوية التشاؤمية والتركيز على السلبيات والجرائم التي تُرتَكب باسم الدين، والتغافل عن كل الإيجابيات والمشاهد التاريخية والمعاصرة الجميلة الناشئة عن المباديء والقيم والتشريعات الإسلامية.
ــــ وهذا من صور الانتقائية في الشواهد التي يقدّمونها من القرآن والحديث والسيرة، وهي سمة بارزة في طريقتهم في الاستدلال.. والانتقائية خلاف الموضوعية في البحث والتحليل، ولا توصل إلى نتائج علمية.
ــــ وأدعو أبنائي الشباب إلى قراءة شهادات قدّمها عدد من المستشرقين من قبيل: (آدم متز) و (جورج سارتون) و (توماس أرنولد) و (فرانز روزانتال) و (روبرت بريفولت) وآخرون ممن كتبوا عن الجوانب المشرقة للإسلام الذي نعرفه في بُعده الإنساني والحضاري.
ــــ ولربما أفادهم في ذلك مطالعة كتاب (الإسلام والحضارة الإنسانية) للأديب عباس محمود العقاد، وكتاب (ماذا قدم المسلمون للعالم؟ إسهامات المسلمين في الحضارة الإنسانية) لراغب السرجاني، وكتاب (رؤى إسلامية في فلسفة العلم والتنمية الحضارية) لأحمد فؤاد باشا.
8ــ التركيز على الخطاب العاطفي المهيّج لمشاعر الناس، وتقديم الصور الإنسانية المأساوية بشكل مكثّف ومن دون موضوعية، وتحميل المسؤولية للإسلام كدين تعبّدي والعلماء والمتديّنين.
ـــ ولنا أن نسأل: هل بَرزت النزعة الإنسانية عملياً في أتباع الوجودية الإسلامية؟ أين مشاريعهم الإنسانية؟ أين آثارهم الاجتماعية؟ أين حراكهم السياسي لتخليص الإنسانية البائسة؟
ــــ على شبابنا الأعزاء المتأثّرين بهذا الطرح أن يراجعوا أنفسهم، وأن يطلبوا من الآخرين تقييمهم، وسيجدون أن النتيجة الأبرز في اللحاق بركب الوجودية الإسلامية لم يؤدِّ إلا إلى تعاظم (الأنا) وتضخّمها، ومعاداة أقرب الناس إليهم.. وهو خلاف غرضهم وأهدافهم المعلنة.
9ـ التمجيد بالعصر الجاهلي بادّعاء تمسّك الجاهليين بالقيم الإنسانية حتى عند الغزو، على خلاف الدين الذي رسم الفقهاءُ معالمَه.
ــــ هذا القول مجانب للصواب، فإنه وإن تمسّك بعض الجاهليين ببعض القِيَم، إلا أن مصادر التاريخ والأدب والثقافة العربية، بالإضافة إلى القرآن الكريم تؤكد على الصور الإجرامية الكثيرة بحق الإنسانية في العصر الجاهلي، ويكفيهم عار: (وَإِذَا الْمَوْؤُودَةُ سُئِلَتْ، بِأَيِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ) [التكوير:8-9] (وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ، يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِن سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلاَ سَاء مَا يَحْكُمُونَ) [النحل:58-59]، (وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلاَدِهِمْ شُرَكَآؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُواْ عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شَاء اللّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ) [الأنعام:137]، والأمثلة والشواهد فوق الإحصاء.
10ــ تقديم مقارنات بين الملحد ـــ أو غير المسلم ـــ صاحب النزعة الإنسانية الذي يعمل على تحقيق سعادة الناس وتأمين حقوقهم، وبين المسلم الذي يرتكب الجرائم بحق الناس.. بشكل يوحي وكأن النماذج الإنسانية المتعارضة مقصورة على هاتين الصورتين.
ـــ أليس في الحياة أيضاً متديّنون وملتزمون بالإسلام فكراً وشريعة وقِيَماً، وهم في قمة الإنسانية؟ ثم، ألا تمتليء الحياة بنماذج لوحوشٍ من الملحدين واللادينيين وأتباع الديانات الأخرى؟
ـــ كانت هذه بعضٌ من الأفكار والمتبنّيات التي تطرحها (الوجودية الإسلامية)، والتي انتشرت وامتدّت في بعض الأوساط الشبابية وتُرجِمت إلى ترك الصلاة، وهجر المساجد، ونزع (الحجاب)، وعدم التقيّد بالأحكام الشرعية، ومهاجمة علماء الدين دون تمييز، دون أن نلحظ في المقابل كثيرَ تغيير في سلوكياتهم ذات البُعد الإنساني، ولا في المشاريع ذات الطابع الإنساني، بل ارتفع لديهم منسوب الأنانية والالتفاف حول الذات، والاكتفاء بالضجيج الشعاراتي الذي ملؤوا به وسائل التواصل الاجتماعي، فكانوا مصداقاً للمثل القائل: (جعجعة بلا طحين). دعوة من القلب إلى أبنائنا الشباب للتثبّت والتريّث والحوار والمساهمة في تنمية واقعنا المعاصر والتفريق بين الخطابات العاطفية والشعاراتية التي يُطلقها البعض، وبين الواقع والعمل والتطبيق.. وليتذكّروا أن الحياة مليئة بالمتصنِّعين الذين يَمهَرون في دسّ السمّ في العسل...