خطبة الجمعة 11 محرم 1440: الشيخ علي حسن : الخطبة الثانية: بين جيفارا والإمام الحسين

ـــــ منذ سنوات بعيدة ــــ وما زلت ــــ أشاهد أيقونة (تشي جيفارا) على ثياب الشباب وبعض مقتنياتهم وعلى الجدران وفي منتديات الحوار، وكنت أتساءل في نفسي: ما الذي يدفع الشباب في العالم، بما فيهم المسلمون، إلى الحرص على استحضار هذه الشخصية بصورة أو بأخرى؟
ـــــ طبيب من أصل أرجنتيني، عُرف بشخصيته الثورية، وتبلورت ثوريته بشكل كبير عندما كان في سنته الأخيرة في كلية الطب وسافر إلى أنحاء من أمريكا اللاتينية على دراجة نارية، وتلمّس عن قرب الظلم الكبير الواقع من الرأسماليين والإقطاعيين على المزارعين والفقر المتوطن هناك.
ـــــ وهكذا انضم إلى الثورة الكوبية بقيادة فيدل كاسترو، وكان قائداً ميدانياً لحرب العصابات، وأصبح الرجل الثاني في القيادة، ثم وزيراً في حكومة كوبا بعد نجاح الثورة، وصار يجوب أنحاء متفرقة من العالم بما فيها بعض البلدان العربية، داعياً لمباديء الثورة الماركسية التي آمن بها.
ـــ وفي آخر سنيتن من عمره استقال من مناصبه الرسمية، وتحوّل إلى خبيرٍ لحرب العصابات في عدد من البلدان، إلى أن أُلقي القبض عليه في بوليفيا وأعدم في سنة 1967 عن 39 سنة.
ــــ لعل أهم ما جعل جيفارا خالداً في ثقافة الشباب حول العالم هي تلك الشعارات والكلمات التي أطلقها وتضمّنت في كثير من الأحايين مفاهيم إنسانية راقية، وذلك من قبيل: (لا يهمّني متى وأين سأموت.. لكنْ يهمّني أن يبقى الثوارُ منتصبين، يملأون الأرض ضجيجاً، كي لا ينام العالم بكل ثقله فوق أجساد البائسين والفقراء والمظلومين).
ــــ (إذا فُرِضت على الإنسان ظروفٌ غيرُ إنسانية ولم يتمرّد، سيفقد إنسانيتَه شيئاً فشيئاً).
ــــ (أحلامي لا تعرف حدوداً.. كل بلاد العالم وطني وكل قلوب الناس جنسيتي.. إنّ حبيَ الحقيقي الذي يَرْويني هي الشعلةُ التي تحترق داخل الملايين من بائسي العالم المحرومين.. شعلةُ البحث عن الحرية والحق والعدالة).
ــــ (لا تُحمَلُ الثورةُ في الشفاه ليُثرثَر عنها، بل في القلوب من أجل الشهادة من أجلها).
ـــ لاشك أن هذه الشعارات والعناوين تدغدغ عقول وقلوب الباحثين عن الحرية والعدالة والحق.
ــــ من الممكن أن يناقش البعض في فكره الماركسي، وحول بعض من قراراته الثورية، إلا أن تلك الصورة الثورية المضحِّية من أجل القضية والمباديء التي آمن بها والتي خُتِمت بإعدامِه، ومضامين شعاراته، استطاعت أن تجعل منه رمزاً لكثير من الشباب، وإلى هذا اليوم.
ــــ فهل نجحنا في تسويق شخصية الإمام الحسين (ع) وثورتِه وتضحياتِه عالمياً؟
ــــ جيفارا تحدّث عن عناوين الحرية والحق والعدالة والإيثار ومواجهة الفاسدين والظالمين وتغيير الواقع البائس والشهادة في هذا الطريق، ورفعها في شعاراته، وعمل على تحقيقها وفق عقيدته الخاصة، وكلها حاضرة ـــ وبقوة ـــ في تفاصيل الثورة الحسينية، وفي شعاراتها، وفي خطابات الإمام الحسين (ع).. ولكن إلى أي مدى نجحنا في تسويقها عالمياً؟
ــــ ألم يقل الحسين (ع) حين خرج من المدينة: (وإنّي لم أخرج أشِراً ولا بَطَراً ولا مفسداً ولا ظالماً، إنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي (ص) أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر، وأسير بسيرة جدي وأبي علي بن أبي طالب، فمَن قَبِلَني بقبول الحق، فالله أولى بالحق، ومَن ردَّ عليَّ هذا أصبر حتى يقضي الله بيني وبين القوم بالحق وهو خير الحاكمين).
ـــ ألم يقل حين قطع عليه الحر الرياحي الطريق نحو الكوفة: (ألا ترون إلى الحقّ لا يُعمل به، وأن الباطل لا يُتناهى عنه، ليرغب المؤمن في لقاء ربّه محقّاً، فإنّي لا أرى الموت إلّا سعادة والحياة مع الظالمين إلّا برماً).
ـــ ألم يقل يوم العاشر من المحرم مخاطباً الجيش الأموي: (إن لم يكن دين وكنتم لا تخافون المعاد فكونوا أحراراً في دنياكم هذه).
ـــــ وهذه مجرد نماذج من الكلمات.. وتُضاف إليها الأفعال التي برهَنت مصداقية الحسين (ع) وأهلِ بيته وأنصارِه.. رجالاً ونساءً.. كباراً وصغاراً.. سواء في البطولة، أو التضحية، أو الإيثار، أو القيم الإنسانية التي من النادر أن تتجلّى في مثل هذا الموقف العصيب، وسواء في ميدان القتال أو في المرحلة التي سبقت أو أعقبت ذلك.
ـــ وكل إنسان منصف وصاحب مباديء عندما اطّلع على تفاصيل الثورة الحسينية لم يملك إلا أن يُبدي انبهاره بها، وأن يستهديَ بها، بغضّ النظر عن دينه ومعتقده.
ــــ كان الحسين (ع) أعظمَ قربان شهدتْهُ مذابِحُ الفضيلة.. دمُه الزاكي الذي رَوى أرضَ الطفِّ غدا نَبضاً دافقاً يملأ قلبَ الزمن، وقبَساً مُشرقاً في كلِّ ضمير.. وقلوب عشّاق الحرية والكرامة والمباديء تبحث في صفحات التأريخ الإنساني عن مثل هذا الألَق الذي يُبهِرُ بإشراقاتِه أبصارَ المقهورين والمستضعفين والباحثين عن الأمل في حياةٍ عنوانُها العزةُ والكرامة.. ويومُ الحسين لوحةٌ امتزحت فيها البطولةُ بالمأساة، والعِزَّةُ بالحُزن، والشجاعةُ بالدموع، والقوةُ بالألم.. ولهذا، كان مِن المنطقي أن يدخُلَ حبُّ الحسين ــــ بلا استئذان ــــ إلى أفئدةِ مَن عَرَفوا معانيَ القيمِ التي تمسّك بها الحسين، والشعاراتِ التي رفَعها، والمباديءَ التي مِن أجلها قدّم التضحيات.. حتى قال المسيحي وقد وقفَ ببابِ مشهَدِ الحسينِ (ع) بكربلاء: (دخلتُ إلى مقامِ الحسين فصُعقت وذُهلت.. هو ذا منْ استُشهد فأصبح رمزاً للانتفاض على الظلم، هو ذا مَنْ استُشهد في سبيل العدل، وترك الملايين تتطلّع إليه مثالاً للإنسان الذي أفنى جسدَه في سبيلِ الكمالِ البشري.. بعدَ رُبعِ ساعة وجدتُ نفسي أبكي ثم أبكي ثم أبكي)، واندفع الشاعرُ الألبانيّ (نعيم بك فراشري) قبلَ أكثرَ مِن مائة عام ليكتبَ (ملحمةَ كربلاء) في عشرة آلاف بيتٍ من الشعر.. وليقول مستشرقٌ: (قدّمَ الحسينُ للعالَم درساً في التضحيةِ والفداء.. وأدخلَ الإسلامَ والمسلمين إلى سجِلِّ التاريخ.. ولقد أثبت هذا الجنديُّ الباسلُ في العالمِ الإسلامي لجميعِ البشرِ أنّ الظلمَ والجَوْرَ لا دوام له، وأنّ صَرحَ الظلمِ مهما بدَا راسخاً وهائلاً في الظاهر، إلا أنّه لا يَعدُو أن يكونَ أمامَ الحقِّ والحقيقةِ إلا كريشةٍ في مهبِّ الريح). إننا أمام مسئوليةِ عولمةِ القضيةِ الحسينيةِ بكلِّ أبعادِها الإنسانيةِ وبالطرُقِ السليمة، وذلك لما تختزنُه هذه الثورة مِن مقوّماتٍ ذاتية، تكفل لنا النجاح في عولَمَتِها، ولكنْ للأسف فإننا لم ننجح في هذا الإطار إلا قليلاً، حيث لم نعرفْ كيف نصلُ إلى الآخرِ مِن خلال ذهنيَّتِه وثقافتِه ولغتِه، واكتفينا في أغلب الأحايين بأنْ ندور في فلكِنا الخاص، أو أن ننطلق بصورة خاطئة من خلالِ الإصرارِ على أساليبِنا الخاصة في إحياء الذكرى والمتناسبة مع ثقافتِنا دون مراعاةٍ لخصوصياتِ الآخرينَ أو حساسيّاتهم، أو أنْ نتقدم بصورةٍ خجولةٍ لا تتلاءمُ مع القيمةِ الحقيقيةِ والهائلةِ التي تختزنُها هذه الذكرى في حيثياتِها المتعدِّدة.. فلندرس تجاربَ الآخرينَ لنعرِفَ كيف سوّقوا لشخصياتٍ لا تمثّلُ في سيرتِها وعناصرِ حركتِها سوى بُقعةٍ من ضَوء في سماء الحسين الزاهرة بالنجوم.