خطبة الجمعة 4 محرم 1440: الشيخ علي حسن : الخطبة الثانية: هكذا يكون القادة


ـــــ ذكرت في الخطبة الأولى أن الحسين (ع) واجه في مسيره إلى العراق حالة شبيهة لما واجهه طالوت في مواجهة جيش جالوت، ولِما واجهه النبي (ص) في يوم الأحزاب.
ـــــ فقد خرج الإمام الحسين (ع) من مكة المكرمة بعدد يقارب المائة شخص، ثم في الطريق إلى العراق التحق به المئات.. فلماذا لا نجد لهم ذِكراً في يوم الطف؟
ـــــ روى الشيخ المفيد في (الإرشاد) عن رجلين من بني أسد كيفية قدومهما على الإمام (ع) وإخبارهما له عما جرى في الكوفة لمسلم: (فأقبلنا حتى لحقنا الحسين صلوات الله عليه فسايرناه حتى نزل الثعلبية مُمسياً) قال أبو علي ابن رُسته [ت300هـ تقريباً] في كتابه [الأعلاق النفيسة]: [مدينة عليها سور وفيها حمامات وسوق، وهو ثلث الطريق إلى مكة] أي للقادم من الكوفة... وهي بحسب طريق القوافل آنذاك تبعد 416 كم تقريباً عن الكوفة. (فجئناه حين نزل فسلَّمْنا عليه، فردّ علينا السلام، فقلنا له: رحمك الله، إن عندنا خبراً، إن شئت حدثناك علانية، وإن شئت سراً، فنظر إلينا وإلى أصحابه ثم قال: ما دون هؤلاء ستر).
ـــــ ونقلا له ما عَلِماه مِن مقتل مسلم بن عقيل وهانيء بن عروة فقال (ع): (إنا لله وإنا إليه راجعون، رحمة الله عليهما. يكرر ذلك مراراً، فقلنا له: نُنشدك الله في نفسك وأهل بيتك إلا انصرفتَ مِن مكانِك هذا، فإنه ليس لك بالكوفة ناصرٌ ولا شيعة) أي أنصار (بل نتخوّف أن يكونوا عليك. فنظَر إلى بَني عقيل فقال: ما ترون؟ فقد قُتل مسلم. فقالوا: والله لا نرجع حتى نُصيبَ ثأرنا أو نذوقَ ما ذاق، فأقبل علينا الحسين (ع) وقال: لا خير في العيش بعد هؤلاء. فعلِمنا أنه قد عزَم رأيَه على المسير، فقلنا له: خار الله لك، فقال: رحمكما الله. فقال له أصحابه: إنك والله ما أنت مثل مسلم بن عقيل، ولو قَدِمت الكوفة لكان الناس إليك أسرع) أي لديك من المقوّمات ومن الشعبية والولاء بين الناس ما هو أكبر بكثير مما كان لمسلم، وعليه فإن احتمالات نجاحك في الكوفة فيما أنت عازم عليه كبيرة (فسكتَ، ثم انتظر حتى إذا كان السَّحَر قال لفتيانه وغلمانه: أكثِروا مِن الماء. فاستَقَوا وأكثَروا ثم ارتحلوا، فسار حتى انتهى إلى زُبالة). قال الحموي في [معجم البلدان]: [منزل معروف بطريق مكة من الكوفة، وهي قرية عامرة بها أسواق بين واقصة والثعلبية]، وذكر ابن رُسته: [ماؤها كثير ومستنقِع في واد يوجد به الماء في الشتاء والصيف]. وهي تبعد 288 كم عن الكوفة تقريباً (فأتاه خبرَ عبدِالله بن يقطر) وكان حامل رسالته إلى الكوفة، فألقي القبض عليه وقتله ابن زياد (فأَخرج إلى الناس كتاباً فقرأه عليهم: بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد، فإنّه قد أتانا خبرٌ فظيع، قُتل مسلم بن عقيل، وهانيء بن عروة، وعبدالله بن يقطر، وقد خذَلَنا شيعتُنا) أي الذين وعدونا بالنصرة والاتّباع ضد الأمويين (فمَن أحبَّ منكم الانصراف فلينصرف غيرَ حَرِج، ليس عليه ذِمام) أي لن أطالب الذين يختارون الانصراف بشيء.
ـــــ كان هذا الاختبار الأول في الطريق إلى المواجهة بين الحق والباطل، فسقط فيه كثيرون حيث لم يتحمّلوا مسئوليتهم في المواجهة، وانكشفت حقيقة دوافعهم.
ـــــ هؤلاء لم يكن دافعهم نصرة الحق ودفع الظلم والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بل كانت غاياتهم شخصية.. مجرد مطامع شخصية، فحين انكشفت الصورة وتبيّن لهم أن احتمالات حصولهم على تلك المطامع قد ضعفت بشكل كبير حيث تغيّرت موازين القوى، انكفأوا على وجوههم مولّين: (فتفرَّق الناسُ عنه، وأخذوا يميناً وشِمالاً، حتى بقي في أصحابه الذين جاؤوا معه من المدينة، ونفرٌ يسير ممن انضووا إليه) أي من الطريق (وإنما فعل ذلك، لأنه (ع) علِم أنّ الأعراب الذين اتّبعوه إنما اتّبعوه وهم يظنّون أنه يأتي بلداً قد استقامت له طاعةُ أهلِه) وبالتالي سيحصلون على الغنيمة فقط ودون تضحيات (فكرِهَ أن يسيروا معه إلا وهم يعلمون على ما يَقدُمون) ولم تكن للحسين حاجة في هذا النموذج الذي سيخذله في الشدَّة.
ـــــ هذا مشهد ومشهد آخر في ليلة العاشر من المحرم حين جمع الإمام الحسين (ع) كلَّ أصحابه وأهلَ بيته وقال لهم: (اللهم إني لا أعرفُ أهلَ بيتٍ أبرَّ ولا أزكى ولا أطهرَ مِن أهل بيتي، ولا أصحاباً هم خيرٌ مِن أصحابي، وقد نَزَل بي ما قد ترون، وأنتم في حِلٍّ مِن بيعتي ليست لي في أعناقكم بيعة ولا لي عليكم ذمة، وهذا الليل قد غشيكم فاتخذوه جملاً).
ـــــ في الموقف السابق، بمجرد أن قال: (فمَن أحبَّ منكم الانصراف فلينصرف غيرَ حَرِج، ليس عليه ذِمام) تفرّق عنه أهل الدنيا وأصحاب المطامع.
ــــ أما في هذا المشهد فكان الأمر مختلفاً تماماً، لأن تلك الثلة الباقية من أنصاره الذين سمعوا هذا الكلام كانوا من الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه، ولم يزدادوا إلا بصيرة وإصراراً وعزيمة، فقال مسلم بن عوسجة: (أنحن نُخلّي عنك ولما نُعذِر اللهَ في أداء حقِّك؟) وقال سعيد بن عبدالله الحنفي: (والله لو علمت أني أُقتَل ثم أُحيا ثم أُحرَق ثم أُذر ويُفعل ذلك بي سبعين مرة ما فارقتُك) وقول زهير بن القين: (والله لوَددتُ أنّي قُتلت ثم نُشرت ثم قُتلت حتى أُقتل كذا ألف قتلة، وأنّ الله يَدفعُ ـــ بذلك ـــ القتلَ عن نفسك وعن أنفس هؤلاء الفتية من أهل بيتك).
ـــــ خطاب الإمام الحسين (ع) في ليلة عاشوراء بأصحابه وما عرضه عليهم يؤكد ضرورة أن يكون مَن يجعل نفسه في الموقع القيادي صريحاً مع قواعده، واضحاً في مسيرته، صادقاً في أقواله، وإن كان ذلك قد يكلّفه أحياناً ضريبةً ما، إلا أنه سيفوز بالتفاف الصادقين حوله إلى درجة الاستماتة في نصرته.
ــــــ وفي عهد أمير المؤمنين علي (ع) لمالك الأشتر: (وإن ظنّت الرعية بك حيفاً فأصحر لهم بعذرك) ابرز لهم، و بيِّن عذرك فيه، وأصحر: أظهِر، من البروز في الصحراء (واعدل عنك) نحِّ عنك (ظنونهم بإصحارك، فإن في ذلك رياضةً منك لنفسك) تعويداً لنفسك على العدل (ورفقاً برعيتك، وإعذاراً) تقديم العذر أو إبداؤه (تبلغ به ‏حاجتَك مِن تقويمهم على الحق).
ـــــ هكذا كان الإمام الحسين (ع) صريحاً وواضحاً في بيان حقيقة الأوضاع وحراجة الموقف، وأعطى أنصاره الحرية في اتخاذ الموقف الذي يرتأونه، وهذا هو أسلوب الحسين، الصراحة.. ولنا أن نسأل: كم هي صريحة وواضحة في هذا العصر تلك القيادات الإسلامية وغير الإسلامية والشخصيات العامة التي تُمثّل الأمة وتتكلم باسمها وتخطط لمستقبلها والعاملة في الساحة؟ فالأمة التي لا تعيش الوضوح، معرّضة لأن تترنح في حالة من التخبّط والضياع، حيث يَسهُلُ أن تُخدَع بالكلمات والوعود الزائفة، فالحياة مليئة بالذين يُتقنون فنَّ التمثيل بالكلمات... والذين يَسقطون ضحايا تلك الكلمات والوعود الزائفة كُثُر! كما أن مثل هذه الأمة معرّضة بمرور الوقت وتراكم السلبيات لأن تفقد ثقتَها بقياداتها فتبحث عن البديل، أو أن تنكفيء على نفسها ولا تجد لحضورها كثير فائدة، وحينها تكون الخسارة كبيرة ويصعب تعويضَها.