خطبة الجمعة 4 محرم 1440: الشيخ علي حسن : الخطبة الأولى: ما زادهم إلا إيماناً وتسليماً

ــــ قال تعالى في كتابه الكريم: (إِذْ جَاؤُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتْ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيدًا) [الأحزاب:10-11].
ـــــ في سورة الأحزاب، يُقدِّم القرآن الكريم صورتين لموقفين متضادين في جيش النبي (ص)، وفي واحدة من أصعب وأشد الظروف التي مرَّ بها المسلمون، والمتمثلة في المواجهة مع جيش ضخم متنوع التشكيل، هو جيش الأحزاب في يوم الخــندق.
ـــــ الصورة الأولى: (وإذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُورًا، وَإِذْ قَالَت طَّائِفَةٌ مِّنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِّنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِن يُرِيدُونَ إِلاَّ فِرَارًا، ولَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِم مِّنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلاَّ يَسِيرًا) [الأحزاب:12-14].
ـــــ وأما الصورة الثانية فكانت: (وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا، مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلا) [الأحزاب:22-23].
ـــــ فقسم يفقدون الثقة بالله، وتُعبِّر الآية عما دار في عقولهم بقولها: (وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا)، ومجموعة تتخلى في أشد الظروف عن مسئوليتها، وتعيش كل القلق والخوف، ويتضعضع إيمانُها في أهم مكوّناته، وهو التوحيد بحيث أنهم لو: (سُئِلُوا الْفِتْنَةَ) الشرك (لَآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلاَّ يَسِيرًا). وهكذا فقدوا الثقة بالله ونسبوا له ما لا يليق: (مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُورًا)!
ـــــ ومجموعة أخرى تعتبر أن الموقف تصديقٌ للوعد الإلهي كما في قوله تعالى: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ) [البقرة:214].
ـــــ فهم يدركون ويوقنون أن هذه هي سنة الله في طبيعة الصراع بين الحق والباطل.
ـــــ وتصديقهم هذا تَرجموه إلى موقف عملي، ولم يتوقف عند حد التصديق الفكري، وتمثّل في الثبات والاستعداد للتضحية: (وَمَا زَادَهُمْ) أي هذا الموقف العصيب (إِلاَّ إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا).
ـــــ ثم إنَّ موقف المتخاذلين من المنافقين والذين في قلوبهم مرض لم يُثبّط هذه المجموعة، ولم يَصرفهم عن تحمّل مسئولياتهم، ولم يفتّ في عزائمهم، لأنهم تعلّموا الدرس القرآني جيداً.
ـــــ فقد أخبرهم القرآن الكريم مِن قَبل عن صورة قريبة مما هم عليه من حال الانقسام وخذلان البعض عند مواجهة عدوٍّ قوي ومتّحد: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلإِ مِن بَنِي إِسْرائيلَ مِن بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُواْ لِنَبِيٍّ لَّهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّه قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلاَّ تُقَاتِلُواْ قَالُواْ وَمَا لَنَآ أَلاَّ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللّه وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَآئِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْاْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ) [البقرة:246].
ـــــ وخرجت هذه الفئة القليلة بقيادة طالوت، واختبرهم بعدم الشرب من النهر وهم عطاشى: (فَشَرِبُواْ مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ قَالُواْ لاَ طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاقُوا اللَّهِ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ) [البقرة:249]. وهكذا تساقطت فئة بعد فئة طوال هذا الاختبار الصعب، ولم يتبقّ من ذلك الملأ إلا الثلة التي صبرت إلى نهاية الطريق ففازت.
ـــــ هذه واحدة من فوائد تقديم هذه الصور التاريخية في القرآن.. تحقيق البصيرة في سنن التاريخ.
ــــــ نفس هذه الصورة المتناقضة نجدها في مسير الإمام الحسين (ع) من المدينة، فمكة، فالعراق.. فمال الذي جرى؟ وما هو الدرس المستفاد من ذلك.. هذا ما سنتحدث عنه في الخطبة الثانية بإذن الله تعالى.