خطبة الجمعة 27 ذي الحجة 1439: الشيخ علي حسن : الخطبة الثانية: نهج البلاغة في عيون وزارة الإعلام

ـــــ أثير مؤخراً موضوع صدور منع من وزارة الإعلام لكتاب (نهج البلاغة) الذي جمع فيه الشريف الرضي شيئاً مما روي من خطب ورسائل وحِكم الإمام علي بن أبي طالب (ع).
ـــــ وتبيّن من خلال التدقيق في الأمر أن المنع صادر بحق موسوعة مؤلفات الشريف الرضي وهي تحتوي على مجموعة كتب، ومن بينها كتاب نهج البلاغة.. بالإضافة إلى وجود منع صادر قبل بضعة سنوات بحق نسخة نهج البلاغة المتضمنة تعليق وشرح مفتي الديار المصرية الأسبق الشيخ محمد عبده، دون سواها من النسخ الأخرى.
ـــــ وفي الموردين كان سبب المنع هو ذِكر أسماء الصحابيين طلحة والزبير بالإضافة إلى أم المؤمنين عائشة على أنهم هم المعنيون في الفقرة الفلانية التي تحدث فيها الإمام علي (ع) بصورة ناقدة في بعض خطبه.
ـــــ ولي وقفة مع هذا الموضوع المثير للحساسيات، لاسيما ونحن على أبواب شهر محرم وموسم المجالس الحسينية.
ـــــ أولاً، أجدد تأكيدي المتكرر بأنني ضد الإساءة إلى رموز ومقدسات الآخر، والتزامي بفتوى مرجعياتنا الدينية التي صرّحت بحرمة ذلك، وبالقانون الكويتي الصادر بهذا الشأن، وبحكم العقل القاضي بضرورة الترفّع عن الأساليب الهابطة والاستفزازية عموماً.
ـــــ ثانياً، لا أدري كيف يفوت وزارة الإعلام، أنه لا يمكن التعامل مع الكتب والموسوعات التراثية بهذه الطريقة من التقييم، وأنه لو أريد تطبيق نفس المعيار المذكور آنفاً بحقها، فسيلزم من ذلك منع كم هائل من المصادر التراثية، بحيث لن يبقى في قائمة المسموح منها إلا النادر.
ــــــ ولا أتحدث هنا عن الكتب الشيعية، بل عن عموم المصادر الإسلامية.. وخذ الأمثلة التالية:
ــــ موسوعة تاريخ الطبري أشهر من نار على علم، وأشهر موسوعة تاريخية تراثية إسلامية. ينقل الطبري في تاريخه (ج ٣، ص ٤٧٥) الخبر التالي عن الرجل الذي اشتُري منه الجمل وقُدِّم لأم المؤمنين عائشة في مسيرها إلى العراق، حيث يشرح فيه كيف اشتري منه الجمل ومرافقته للقوم ليدلّهم على الطريق، إلى أن قال: (... طرقْنا ماءَ الحوأب فنبحتْنا كلابُها. قالوا: أيُّ ماء هذا؟ قلت: ماءُ الحوأب. قال: فصرًخًت عائشةُ بأعلى صوتها، ثم ضربت عَضُدَ بعيرِها فأناختْه، ثم قالت: أنا والله صاحبةُ كلابِ الحوأبِ طَروقاً) ليلاً (رُدُّوني. تقول ذلك ثلاثاً. فأناخت، وأناخوا حولها وهم على ذلك وهي تأبى، حتى كانت الساعة التي أناخوا فيها من الغد، فجاءها ابنُ الزبير فقال: النجاء النجاء، فقد أدرككم والله عليُّ بن أبي طالب. قال: فارتحلوا وشتموني، فانصرفت). وتحذير النبي (ص) زوجاته من أن تكون إحداهن صاحبة الحوأب قضية معروفة.
ــــ وبعد صفحتين يروي الطبري: (أن عائشة رضي الله عنها لما انتهت إلى سَرِف) منطقة تبعد 12 كم شمال غرب مكة المكرمة (راجعة في طريقها إلى مكة، لقيها عبدُ بن أم كلاب، وهو عبد بن أبي سلمة، يُنسب إلى أمه، فقالت له: مَهْيَم؟) ما شأنك أو ما وراءك؟ (قال: قَتلوا عثمان رضي الله عنه، فمكثوا ثمانياً. قالت: ثم صنعوا ماذا؟ قال: أخذها أهلُ المدينة بالاجتماع فجازت بهم الأمور إلى خير مجاز، اجتمعوا على علي بن أبي طالب. فقالت: والله ليتَ أنّ هذه انطبقَت على هذه إنْ تم الأمرُ لصاحبك!) أي علي (ردّوني ردّوني. فانصرَفَت إلى مكة وهي تقول: قُتل والله عثمانُ مظلوماً، والله لأطلبنَّ بدمه. فقال لها ابنُ أمِّ كلاب: ولم؟ فوالله إنّ أوّل مَن أمَالَ حرفَه) أي خالفه (لأنت! ولقد كنتِ تقولين: اقتلوا نعثلاً فقد كفر. قالت: إنهم استتابوه، ثم قتلوه، وقد قلتُ وقالوا، وقَولِي الأخير خيرٌ مِن قولي الأول. فقال لها ابنُ أمِّ كلاب) وذكر الطبري أبياتاً من الشعر ثم قال: (..... فانصرَفت إلى مكة فنزلت على باب المسجد، فقصدت الحِجر، فسُترت، واجتمع إليها الناس فقالت: يا أيها الناس، إنّ عثمان رضي الله عنه قُتِل مظلوماً، ووالله لأطلبنَّ بدمِه).
ــــ فمثل هذه الروايات، وهي مجرد مثال بسيط ضمن مئات الأمثلة في تاريخ الطبري تستدعي وفق معيار وزارة الإعلام منع هذه الموسوعة، لما فيها من روايات تذكر أم المؤمنين والصحابة بسوء.. ومثل تاريخ الطبري، تاريخ ابن كثير، وابن الأثير، وابن خلدون، ومسند الإمام أحمد بن حنبل، والإصابة في تمييز الصحابة، وفتوح البلدان، وتاريخ مدينة دمشق لابن عساكر، وفتح الباري شرح صحيح البخاري، والمستدرك على الصحيحين، ومعجم الطبراني، وسنن النسائي، وتفسير الطبري، بل وبما في ذلك كتب الصحاح.. والقائمة تطول وتطول.
ــــ ولو أحب أحدٌ الاطلاع على شواهد من هذه الكتب فيها إساءات وفق المعيار الذي اعتمدته وزارة الإعلام لمنع الكتابين المذكورين، فأنا على استعداد لإرشاده بهذا الخصوص.
ـــــ إلا أنّ هذا لا يخدم أحداً، ولا يصح التعامل مع كتب التراث الإسلامي ككتب التفسير والحديث والتاريخ والأدب بهذه الصورة الساذجة.
ــــ ولذا أتصوّر أن وزارة الإعلام بحاجة إلى تعاملٍ أكثر نضجاً وواقعية واحترافية مع مصادر التراث.. ولو أرادت أن تلقي الكرة في ملعب وزارة الأوقاف على اعتبار أنها المعنية في مراجعة الكتب الدينية، فعذرها غير مقبول، لأن وزارة الأوقاف كما هو معلوم تقيّم الكتب من منظور مذهبي أحاديّ التوجّه، بينما كان التوافق في تشكيل لجنة مراجعة الكتب في وزارة الإعلام قائماً على مراعاة التنوّع المذهبي والفكري والثقافي في ذلك.
ـــــ هذا الموضوع يجرنا إلى موضوع آخر غير بعيد عنه، وهو منع الخطباء الحسينيين من ارتقاء المنبر في ما لو ثبت أنهم خالفوا قانوني حماية الوحدة الوطنية، وتنظيم المرئي والمسموع.
ـــــ بعد المنع الذي وقع في العام الماضي لبعض الخطباء، وبحسب نقل بعض الأعزاء الذين بحثوا هذا الموضوع بشكل مباشر مع الجهة المعنية في الدولة، فقد تم الاتفاق على عدم محاسبة أيٍّ من الخطباء على ما صدر عنهم قبل إقرار قانون المرئي والمسموع، أي قبل خمس سنوات تقريباً. ونتمنى أن يتم الالتزام بذلك، لئلا يتكرر ما حصل في العام الماضي، ولئلا تُثار الساحة الشيعية مجدداً بمثل هذه الإجراءات، فالجميع في غِنىً عن ذلك.
ـــــ وعلى الخطباء أيضاً تحمّل مسئوليتهم الشرعية والقانونية والوطنية ــــ لمن كان منهم من المواطنين ــــ بالالتزام بما جاء عن أمير المؤمنين علي (ع): (وقد سمعَ قوماً من أصحَابهِ يسبّونَ أهلَ الشامِ أيّام حرب صفين، فأرسلَ إليهم أنْ كُفّوا عمّا يبلغني عنكم. فأتَوه فقالوا: يا أميرَ المؤمنين، ألسْنَا مُحقّين؟ قال (ع): بلى. قالوا: أليسُوا مُبْطلين؟ قال (ع): بلى. قالوا: فَلِم مَنعتَنا من شَتْمِهم؟ فقال (ع): إني أكْرهُ لكم أنْ تكونُوا سَبَّابِيْنَ شَتَّامِيْنَ لَعَّانِيْنَ تَشْتُمُونَ وَتَتَبَرَّءُون، ولكنكم لو وَصَفْتم مَساوِئَ أعمَالِهم، وذكرتُم حالَهم وَسيرَتَهم كانَ أصوبَ في القَولِ وأبلغَ في العُذر، ولو قُلتُم مكانَ سبِّكُم ولعنِكُم إيَّاهُم وبراءَتِكُم مِنهم: "اللهُمَّ احْقِنْ دِماءَنا وَدِماءَهم، وأصْلِحْ ذاتَ بينِنَا وَبينِهم، واهْدِهم من ضَلالَتِهم، حتى يَعرفَ الحقَّ من جَهِلَه، وَيَرْعَوِي عن الغَيِّ والعُدْوَانِ مَن لَهِجَ بهِ"، لكانَ هذا أَحَبَّ إليَّ، وَخَيْراً لكم). ليس فقط في موسم محرم، بل على طول الخط.. فهذا هو نهج علي (ع)، والتشيع له ليس مجرد عنوان وشعار.
ـــ فلنجعل من الموسم الحسيني السنوي مناسبةً لعرض المباديء والقيم التي حملتها النهضة الحسينية في الإصلاح والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتحكيم كتاب الله عزوجل والسَّيْرِ على سنّة رسوله (ص) والاقتداءِ بالعِترة الهادية، وبلُغةٍ حضارية راقية، لتكون هذه المناسبة مناسبةً بنّاءة وهادفة، ولتمثِّل رافداً آخر مِن روافد قوةِ المسلمين وعزّتهم، لا سبباً في فرقتهم وتمزيق صفوفهم، فالحسين (ع) ليس حَكراً لأحد، ولم يؤطِّر حركتَه في إطارٍ مذهبي معيّن.. ودعوة للمترصّدين والمتربّصين بهذا الموسم، تعالوا نكامِل الموسم العاشورائي بمشاريع وحدوية يلتقي فيها السنّي بالشيعي إيماناً منهما بأنَّ الحسينَ حبيبُ رسول الله (ص) وسيدُ شبابِ أهلِ الجنة والشهيدُ في طريق الحق، بدلاً من أن تُستنزَف الجهود في المواجهات الكلامية، والكلمات الهدّامة، والمواقف الاستفزازية التي لا يربح منها أحدٌ شيئاً.. فلنجتمع على كلمة سواء.. فالكلمة الطيبة أصلُها ثابت، وفَرعها في السماء، تؤتي أكلَها كلَّ حين بإذن ربها، وأما الكلمة الخبيثة فما لها من قرار.