خطبة الجمعة 27 ذي الحجة 1439: الشيخ علي حسن : الخطبة الأولى: معايير بحاجة إلى إعادة نظر

ـــــ من كلام لأمير المؤمنين (ع) قاله لابن أخته أم هانيء واسمه جعدة بن هبيرة المخزومي، حيث أراد جعدة أن يخطب الناس يوماً، فصعد المنبر، فحَصُر ولم يستطع الكلام، فقام الإمام فتسنّم ذروة المنبر، وخطب خطبة طويلة، كانت من ضمنها الكلمات التالية التي نقلها الشريف الرضي برقم 233 من قسم خطب نهج البلاغة، قال (ع):
ـــــ (أَلاَ وإِنَّ اللِّسَانَ بَضْعَةٌ مِنَ الإنْسَانِ، فَلاَ يُسْعِدُهُ الْقَوْلُ إِذَا امْتَنَعَ، وَلاَ يُمْهِلُهُ النُّطْقُ إِذَا اتَّسَعَ) وكأنّه (ع) في البداية يهوّن مما جرى، ويبيّن من جهة أن العوامل النفسية والظرفية والصحية قد تؤثِّر على الإنسان أحياناً ـــــ سلباً وإيجاباً ـــــ في ما له علاقة بالخطابة، تماماً كما أنها تؤثر على سائر أنشطته وفاعليته، وليس هذا بعيب يُعاب به الإنسان.
ــــ ثم يشير من جهة أخرى إلى حقيقة وجود الفروقات الفردية بين الناس: (وَإِنَّا لأمَرَاءُ الْكَلاَمِ، وَفِينَا تَنَشَّبَتْ عُرُوقُهُ، وَعَلَيْنَا تَهَدَّلَتْ غُصوُنُهُ). وكأنه يقول: لا تقيسوا الناس بنا من حيث القدرة الخطابية التي ميّزنا الله بها، فيكون ذلك ظلماً بحقّهم، وخذوا بعين الاعتبار الفروقات الفردية.
ـــــ بعد ذلك ينبّه الإمام إلى البُعد الذي ينبغي أن تتم المفاضلة فيه على مستوى الكلمة، وهو البُعد الأهم من مجرّد القدرة الخطابية والأَولى بالتقييم من خلاله، قال (ع): (وَاعْلَمُوا رَحِمَكُمُ اللهُ أَنَّكُمْ فِي زَمَان الْقَائِلُ فِيهِ بالْحَقِّ قَلِيلٌ، وَاللِّسَانُ عَنِ الصِّدْقِ كَلِيلٌ، وَاللاَّزِمُ لِلْحَقَّ ذَلِيلٌ).
ــــــ هذا هو الأهم.. الصدق والمصداقية والتزام الحق.. فافترض أن شخصاً كان أبلغ الخطباء وأفصح الفصحاء، وأفضل الناس بياناً، ولكنه يخلط الحق بالباطل، ويستعين بالكذب لبلوغ مآربه، ويستعمل الكلمة لنصرة الظالمين والترويج للظلم.. فأي قيمة ـــ وفق المعايير الأخلاقية الفطرية ــــ تبقى لخطاباته وكلماته؟
ــــ ثم إن الله سبحانه لن يحاسب الناس وفق مديات قدرتهم الخطابية، بل من خلال مدى التزامهم بالصدق وتمسكهم بالحق ومصداقيتهم في الحياة.
ـــــ ويكمل الإمام (ع) ما آلت إليه أحوال الناس بتخلّيهم عن التعاليم الشرعية والمباديء الأخلاقية التي جاء بها الإسلام لصلاح حالهم: (أَهْلُهُ مُعْتَكِفُونَ عَلَى الْعِصْيَانِ) بدلاً من الاعتكاف على العبادة والطاعة (مُصْطَلِحُونَ) ومتوافقون (عَلَى الادّهَانِ) والتخلّي عن هذه التعاليم والمباديء.. فمن أعطاهم هذا الحق في التنازل عنها وقد أخذ الله من المؤمنين المواثيق والعهود بالالتزام بها؟
ــــــ وانعكاسات ومصاديق وأمثلة هذا الانحراف الكبير في الأمة عديدة: (فَتَاهُمْ عَارِمٌ) شرس مشاكس ومؤذي (وَشَائِبُهُمْ آثِمٌ) والحال أن الإنسان يُفتَرض به كلما اقترب من الموت أكثر أن يقترب من التوبة ويداد إقبالاً على الله بالطاعة والعبادة والتهيؤ لآخرته.
ـــــ (عَالِمُهُمْ مُنَافِقٌ) وإذا فسد العالِم فسد العالَم، وإذا كان الإيمان غير مستحكم في قلب هذا العالِم، وظاهر خير وباطنه شر، يُظهر التقوى والصلاح وهو كتلة من الفساد، في الوقت الذي تُناط به هداية الناس ويدلّهم على الله، فإن آثار حركته التدميرية ستكون واسعة جداً (وَقَارِئُهُمْ مُمَاذِقٌ) غير مخلص في ارتباطه بالقرآن الكريم قراءةً وحفظاً وتعلّماً وتعليماً، فأهدافه شخصية ترتبط بالمال والشهرة والجاه، والحال أن القرآن هو أوّل وأهم مصدر للمعرفة الإيمانية والشرعية والأخلاقية والحِكَمية، وهو الثقل الأكبر الذي تركه النبي بين ظهرانينا للهداية، فكيف سيكون حال الناس بينما يكون حال حملة كتاب الله بهذه الصورة؟
ـــــ (لايُعَظِّمُ صَغِيرُهُمْ كَبِيرَهُمْ، وَلاَ يَعُولُ غَنيِيُّهُمْ فَقِيرَهُمْ) وهذه انعكاسات أخرى لهذا الانحراف.
ـــــ إننا بحاجة إلى وقفة مراجعة للمعايير التي من خلالها نقيس الأمور ونقيّم بها ما حولنا، لأن كثيراً من هذه المعايير تداخلت في وضعها الأهواء والعصبيات والمفاهيم الخاطئة، ولنتذكر أن الكلمة مسئولية في مصداقيتها ومنطلقاتها وغاياتها.